دراساتصحيفة البعث

حماقة ترامب في سورية تنشر الفوضى

 

 

ترجمة وإعداد: لمى عجاج

أصبحت الولايات المتحدة بحاجة إلى تحليل التكلفة والعائد لتقرّر فيما إذا كان الشرق الأوسط في مقدمة أولوياتها، أم أن واقع الحال قد تغيّر، وخير دليل على ذلك الصفقة التي عقدتها الولايات المتحدة مع تركيا لسحب القوات الأمريكية من سورية، والتي يمكن أن تندرج تحت مسمّى الفوضى “الترامبية” الصرفة، فقد اتخذ ترامب هذا الإجراء الرئاسي بمنتهى التهور وسوء التخطيط دون النظر في عواقبه الوخيمة والدموية، ثم خرج بكل وقاحة ليدافع عن فعلته ويفنّدها على أنها جهدٌ تبذله الولايات المتحدة في إطار مساعيها لإحداث نقلة نوعية في الحرب الأمريكية على الإرهاب.
يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيكون الراعي المسؤول عن المرحلة الرابعة من صراع ما بعد الحادي عشر من أيلول، المرحلة التي ستقدّم فيها الولايات المتحدة الكثير من التنازلات، وفي مقدمتها المخاطرة بأمنها مقابل هدفٍ أبعد، ألا وهو خفض تكاليف تورطها المستمر في فوضى الشرق الأوسط. يخوض ترامب اليوم مواجهة مباشرة مع الكثيرين في حزبه ممن يميلون أكثر إلى دفع تكاليف أعلى مقابل شراء تهديد الهجمات الإرهابية، لكن ترامب أفسد الأمر، فالفوضى التي أثارها لن تنتهي قريباً.
منذ هجمات 11 أيلول مرّت الحرب الأمريكية ضد الإرهاب بثلاث مراحل، تمثّلت المرحلة الأولى في نهج “أي مكان وأي زمان” الذي اتبعته إدارة جورج دبليو بوش في السنوات التي تلت هجوم الحادي عشر من أيلول، عندما شنّت الولايات المتحدة هجمات واسعة النطاق وخطّطت لمشاريع طويلة الأجل، ورفعت راية بناء الأمة في العراق وأفغانستان، وبدا حينها أن احتمال وقوع هجمات مدمّرة وكارثية مرتفع إلى حدٍّ يُنذر بالخطر، لذلك كان المسؤولون الأمريكيون على استعداد لدفع ثمن كبير لقمع الجماعات الإرهابية وهزيمة عرابيها ورعاتها داخل الدولة، ومحاولة تغيير الظروف التي أدّت إلى هذا التطرف غير الطبيعي.
إن الإحباطات وخيبات الأمل الناجمة عن هذا النهج -وخاصة الاحتلال الفاشل والمكلف للعراق- أدّت في النهاية إلى مرحلة ثانية من الحرب على الإرهاب تمثّلت بإظهار إدارة باراك أوباما رغبته في التخفيف من وطأة العمليات العسكرية باستخدام طائرات من دون طيار وقوات العمليات الخاصة وسحب القوات الأمريكية من العراق، وهي الحرب التي هزّت صورته وسمعته كرئيس بعد أن تمّت معارضة هذه الرغبة وإلزامه كرهاً بزيادة مبدئية -وعلى مضض– في أعداد القوات الأمريكية في أفغانستان، لكن وعلى الرغم من قيام إدارة أوباما بالتخفيف من الوجود الأمريكي في أفغانستان بعد عام 2011 في البداية، بدت هذه الإستراتيجية فعّالة ولكن لبعض الوقت، فقد عاد التهديد بقوة مع الرغبة بالثأر والانتقام التي زادت بين صفوف “داعش” في سورية والعراق في 2013-2014.
أدّت هذه النكسة إلى مرحلة ثالثة من الحرب ضد الإرهاب العالمي، والتي تبلورت في الدور النهائي لرئاسة أوباما ودامت لفترة من الزمن في عهد الرئيس ترامب الذي كانت رؤية إدارته أن تخفيف الضغط على العدو يمكن أن يأتي -بنتائج عكسية- ومع قيام “داعش” وداعميها بشنّ هجمات كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة، سعى المسؤولون الأمريكيون إلى إيجاد حلّ وسطي بين هذين النهجين ليكون أكثر اعتدالاً ووسطية، بحيث يستخدم عدداً أقل من القوات البرية، إضافة إلى استخدام القوة الجوية والخدمات اللوجستية والاستخبارات والعوامل المساعدة الأخرى لدعم الشركاء المحليين في مواجهة “داعش”.
اليوم يحاول ترامب تغيير الإستراتيجية الأمريكية وانتهاج سياسة جديدة، فلا مانع عند الرئيس ترامب من سحق المنظمات الإرهابية المشتبه في قيامها بالتخطيط لشنّ هجمات ضد الولايات المتحدة، لكن هذا لا ينفي رغبته الشديدة في استمرار حالة الفوضى وعدم الاستقرار، حتى بعد انتهاء الصراع، والتي تدخل في خانة الوسطية التي قرّر أن ينتهجها وهذا شبيه بما يحصل اليوم في سورية. فبعد أن أعلن ترامب عن بدء انسحاب القوات الأمريكية من الحدود السورية التركية في تغريدة له أطلقها في السابع من تشرين الأول 2019 عبر تويتر عاد مرةً أخرى ليهدّد بأنه يمكن للولايات المتحدة أن تعود لنشر قوة ساحقة. قال في هذه التغريدة: “نحن على بعد 7000 ميل وسنسحق “داعش” مرة أخرى أينما وجدوا في أي مكان بالقرب منا”!.
من الواضح أن هناك بعض المشكلات المصاحبة فيما يتعلق بما يقترحه الرئيس من خلال إعطائه الضوء الأخضر الذي يمهّد الطريق لغزو تركي لشمال سورية.
قد تفوح من قرار ترامب رائحة التخلي عن “حلفائه”، لكنّه اتخذ هذا القرار في سبيل خدمة أهدافه ومصالحه السياسية، فهو يزايد على النظام التركي الاستبدادي والعدائي لخدمة الأهداف السياسة الأمريكية، فضلاً عن أن التخفيف من الوجود الأمريكي قد يؤدي إلى تراجع نفوذه في شمال سورية. لقي قرار الرئيس ترامب تعنيفاً شديد اللهجة في واشنطن للأسباب التي ذكرناها آنفاً، فالسيناتور ليندسي غراهام الذي دعم ترامب بقوة في انتخابات عام 2016 وصف الانسحاب بأنه “أكبر خطأ سياسي ارتكبه ترامب في فترة رئاسته”. وبناءً عليه يبدو أن نقاط الخلاف تتمحور حول نقطة أساسية وجوهرية تتعلق بالسباق التنافسي المحموم على تقدير التكلفة والمخاطر، فترامب مصمّم على خفض السعر المادي لمشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، المنطقة التي يعتبر أنها متواضعة من حيث الأهمية الإستراتيجية، لهذا هو مستعد للمجازفة ورفع مستوى المغامرة، ويعتبر أن مجموعات مثل “داعش” لن تبقى مهزومة على المدى الطويل. وهذا ما عبّر عنه في بحر التغريدات التي غرّد بها في السابع من تشرين الأول الجاري بالقول: “لقد حان الوقت بالنسبة لنا للخروج من هذه الحروب السخيفة والقبلية التي لا نهاية لها، وجلب جنود وطننا”. وأضاف: إذا كانت “داعش” تخطّط للعودة من جديد فربما ستكون عودتها لاستهداف أوروبا قبل أن تقوم باستهداف أمريكا. ومع ذلك فإن معظم القادة الجمهوريين باستثناء المتطرفين منهم، المتعصبين للسياسة الحمائية وغير التدخلية، مثل السيناتور راند بول لديهم حساباتهم المغايرة، يبدو أن غراهام زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ وميتش ماكونيل وآخرين في تجمع الحزب الجمهوري يميلون أكثر إلى أخذ الحيطة والتحصّن من مخاطر عودة “داعش”، حتى لو رافق ذلك تحمّل تكاليف مالية وبشرية أعلى. وأشار ماكونيل في نقدٍ علني نادر لترامب إلى أن الانسحاب الأمريكي “سيزيد من خطر إعادة تنظيم “داعش” وغيرها من الجماعات الإرهابية”، وحذّر كذلك من الخطر الكامن وراء تكرار ترامب للخطأ نفسه الذي وقع فيه أوباما بالانسحاب المبكر من العراق، ومن ثم معاودة التدخل بعد تدهور الموقف الأمريكي على نحو درامي. هنا استدعى الأمر توحد المخاوف السياسية والأمنية وعملها جنباً إلى جنب، ففي حال انسحبت الولايات المتحدة من سورية أو أفغانستان، وكانت نتيجة هذا الانسحاب هجوم إرهابي واسع في أوروبا أو أمريكا، وقتها سيغامر الجمهوريون بإعطاء الديمقراطيين الفرصة السانحة على طبق من فضة لاتهامهم بالتراخي في مواجهة الإرهاب.
حتى الآن لا يزال ترامب يقاتل لتغيير الإستراتيجية الأمريكية وتبديل حساباتها، وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الأمريكيين والجمهوريين على وجه التحديد ما زالوا يضعون الإرهاب في أعلى قائمة التهديدات الأمنية التي تواجه البلاد، ومن ضمنها تخفيض الوجود العسكري في الشرق الأوسط. لقد واجه الرئيس عاصفة من الانتقادات ليس فقط من داخل حزبه، ولكن أيضاً مقاومة من داخل إدارته، ففي المرة الأخيرة التي هدّد فيها ترامب بسحب القوات الأمريكية من سورية في كانون الأول الماضي كانت النتيجة أن قام وزير الدفاع جيم ماتيس بتقديم استقالته.
ربما لا يزال الرئيس الأمريكي مصرّاً على الانسحاب الكامل من سورية وأفغانستان، لكنه في هذه الحالة سيتوجب عليه دفع ثمن سياسي عالٍ داخل الحزب الجمهوري. وحتى لو لم ينجح ترامب في إنهاء الحروب إلى الأبد فإن الجدل الكبير الذي طرحه سيستمر، فهل سيستطيع ترامب تحقيق تقدم ولو بسيط في تغيير حسابات الحزب الجمهوري بشأن القضايا المتعلقة بالإرهاب، بمن فيهم العديد من الديمقراطيين -المرشحين الرئيسيين للحزب في الانتخابات الرئاسية– والذين طالبوا بإنهاء حروب أمريكا في الشرق الأوسط؟. وهل ستعاود “داعش” الظهور في أوروبا والمحيط الهادئ والهند في السنوات المقبلة؟. وهل ستبقى الولايات المتحدة مشتّتة بين رغبتها في القيام بحروب محبطة في الشرق الأوسط، ومخاوفها المبرّرة بشأن ما سيحدث بعد سحب قواتها؟. لا شك في أن شخصية ترامب تتسم بالغرابة والفرادة، لكن الحقيقة الثابتة أنه لا يستحق أي ثناء على سياسة ساعدت في جلب الفوضى إلى بلدٍ آمنٍ كسورية، علاوةً على ذلك فإن الجدل الذي أثاره حول كيفية الموازنة بين التكلفة والمخاطر في الحرب على الإرهاب سيزعزع السياسة الأمريكية لسنوات قادمة.