الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

صباح الخير يا قلبي!؟

د. نهلة عيسى

صباح كل يوم, أشهق في سري باسم الرب كشهقة الولادة.. وأكتمل, وأتعوذ بحب الوطن من كل شيطان رجيم, ومن الموت, والخسارة, وصباحات العدم, وأفتح شبابيك بيتي على المدى, لأسمع من الشارع الثرثرة, ونتفاً من حكايات عابري الطريق, حوادث وهواجس وأمنيات, وأرى في الحكايات بشارة, حقاً بشارة بأن النصر لابد آت.

صباح كل يوم, أسابق الزمن إلى العمل, أنا المصابة بداء الأرق, وأداري الإرهاق بالبسمة, رغم شحوب البسمة, وأشد قدمي لتطأ أول الدرج, ولساني يرتل: يارب أعطني القدرة, منهك لساني من الطرق على أبواب العقول المستريحة, وأحس وكأنني عبر باب موتي أمر, وأرى الصمت مفروشاً في الزوايا كالتكايا, فأشير بأصبعي نحو السبورة المجللة بآلاف القصص, من فيكم رأى, من فيكم سمع, من فيكم قرأ, من فيكم شعر بنار الأرواح الأسيرة والكسيرة؟ فترد الجدران صوتي صدى, رحل الذين يسمعون, ولم ترحل القصص, ومهمتي أن أروي القصص وسط ميدان الصمم, فيتعالى صوتي, ويجفل من بهم صمم, وأرد السلام على ظلال من كتبوا, ومن قالوا, ومن عانوا, يعبرون من السبورة إلى قلبي: صباح الخير يا قلبي, يا صحبي, فيرد طلابي: صباح الخير معلمتي, ويندحر الصمم! تستوي الحياة بالعمل عند أمثالي, نحن الذين نزلنا من أرحام أمهاتنا, يد تسد ثقوب الغدر في ظهرنا, واليد الأخرى على الزناد, ربما بندقية, ربما مكنسة, ربما, آلة, ربما مبضع, ربما قلم!!.

صباح كل يوم, وفي الخارج الذئاب تتلطى بالملابس ومعسول الكلام, وبيني وبين النهار سؤال: نكون أولا نكون؟ والأصوات في الشوارع تهلل للعدم, سيارات, شجارات, وأغنيات قبيحة تنازع فيروز على الصدارة, وشتائم تطال من سمحوا للسيدات بقيادة السيارات, والصوت, صوتان, ثلاثة, أربعة,  مئة صوت وصوت, وكأن لا هم لدينا سوى قطع الطريق, وصوتي وضحكي يتعالى: يا رب ما أجمل دمشق, من الغشيم الذي قال: التاريخ ملك للأقوياء, أليست هذه الحكايات المليئة بالحياة في زمن الموت, تاريخاً!؟.

الساعة العاشرة صباحاً, وصوت صفارة الشرطي يتابعني أينما سرت, فأرفع صوتي ليطغى على الصوت: “طرة أم نقش”؟ يا سيدي الشرطي: صفارتك تطربني, لأنها تؤكد لي أننا رغم الحرب لسنا بين بين, نحن دولة وشعب, نحن ما زلنا معاً, وبرغم العوار, برغم العطب, وبرغم أن الغبار يرافق الهواء, عيوننا مثل عباد الشمس تعانق الأفق, وترى مثل زرقاء اليمامة, ما ليس للعين يُرى, حبة قمح صامدة بلا تنطع ولا إدعاء في تراب الهشيم, تتساءل ببراءة طفل: ماذا يعني مستحيل!؟.

صحيح ماذا يعني مستحيل؟ وجنودنا على كل طريق صواب, وصواريخنا ترد النار بالنار, وترد عار بعض العرب إلى نحر سادة هؤلاء العرب, لئلا يصير دمنا ماء, وكي لا تغادر أعيادنا الثياب الجديدة, وكي لا نجلس فوق الرماد نستمع لألسنة الخيانة تصدح, تبرر, إذ ليس مفروضاً علينا أن نعيش دوماً بين خطوط المصالح, مابين خط ابن العم الزنيم وخط الغريب التاجر, رغم أن خط الصواب في مرمى النظر, وجنودنا يردون على الحقد بالحق, لكي لا يبقى غالباً إلا الوطن!؟.

الساعة الحادية عشرة, وخيوط النهار على عرشها استوت, وقامات يوسف العظمة, والأطرش, وهنانو, وصالح العلي, وجول جمال, وحافظ الأسد, وكل شهداء الوطن, منتصبة في الأمويين فوق جواد السحاب, فوق حصان الحقيقة, يصهل: لا يطأ الأرض إلا بنوها, ونعم الصهيل, هي اللسان الذي يتكلم بالحق: كلنا راحلون, ولكن هذه الأرض خالدة, وستبقى الخيول البرية تتنفس فيها الانتصار, ودمشق عروس, وساحة الأمويين, ساحة عزم, وبيارة ولاء, والوطن غار فوق الرؤوس, والفم لن يمتثل للجام, والمغيرون صبحاً أو عصراً أو ليلاً, بقوا يوماً أو شهراً, أو ألف شهر, سيتحولون إلى سلاحف على الأرض, إلى ركام, سوف نضعه في زوايا المتاحف المفتوحة, تماثيل عار لمن فكر بأن يجللنا بالعار.