الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

قادمون من الجحيم

 

 

 

د. نضال الصالح

على نحو لم أره منذ ما يزيد على ثماني سنوات بدت الصالة الكبيرة في مطار دمشق مزدحمة بالمغادرين والقادمين، وكنت أمضي من شاشة عرض لمواعيد إقلاع الرحلات ووصول أخرى، محاولاً معرفة التوقيت الذي ستصل فيه الطائرة القادمة من مطار القامشلي بانتظار شابة تمنّى قريب عليّ أن أكون في انتظارها لأنها وحيدة بسبب تفرّق أسرتها في غير جهة من الأرض، ومن ثَمّ في أن أصحبها إلى مركز انطلاق “البولمانات” في حرستا، فأحجز لها على أوّل “بولمان” مغادر إلى حلب، حيث أسرة خطيبها الشاب، ابن قريبي، الذي أرغمته ظروف الحرب على إيقاف دراسته في كلية الحقوق في آداب الحسكة، حيث كان تعرّف إليها، وأحبّها، وطلب يدها، ثمّ باعدت الحرب بينهما، هي في قرية من قرى الجزيرة حيث مسقط رأسها، وهو في بلد بعيد من بلاد الغرب مع عشرات الآلاف، وربّما مئات الآلاف، من الشباب الذين حطّت سفن الموت بهم في غير شاطئ هناك.
لم يكن أمام الشابة، وقد بدأ “نبع” السفّاح العثماني الجديد طيشه باسم “السلام” في الشمال والشرق، غير اللجوء إلى أسرة خطيبها، لعلّها تنقذها من براثن الموت الأردوغاني الرجيم.
في أيّ من الشاشات المثبتة في غير مكان من الصالة الكبيرة في المطار لم أقرأ ما يشير إلى أنّ ثمّة طائرة قادمة من القامشلي، أو أنها ستأتي لاحقاً، فقدّرت أنّ المعلومة التي أعطاها قريبي لي عن موعد وصول الطائرة لم تكن دقيقة، فاتصلت به أعلمه بما رأيت، فأكّد لي صحة المعلومة، وآنذاك كان عليّ أن أسأل المعنيين في المطار.
ممتناً للضابط المسؤول إرشاده لي عن الصالة الخاصة بالحجاج، حيث سيكون القادمون من مطار القامشلي، بدلاً من الصالة الرئيسة لغير سبب كما عرفت منه، لأنّ الطائرة عسكرية، “اليوشن”، ولأنّ أعداد القادمين على متنها يتجاوز بضع مئات، وفاغراً عينيّ دهشة شاسعة لم يكد الضابط يمسك بأوّل خيط نارها، الذي امتد من عيني إلى وجهي كله، حتى قال: “معك حقّ، فأيّ مفارقة بين الحجّ والجحيم؟”، وعندما رآني طاعناً في الصمت تابع يقول: “لم يكن ممكناً غير هذه الصالة لاستقبال المسافرين القادمين من هناك بسبب أعدادهم الكبيرة التي تضيق بها الصالة الرئيسة”، وكان يقصد الهاربين من جحيم الموت الذي أضرمه السفّاح “أردوغان” في تل أبيض ورأس العين والقامشلي وغير مكان من الجزيرة السورية الهاجعة على غير مرارة منذ بدأت الحرب على سورية حديثها المرجّم بتعبير الشاعر الجاهليّ زهير ابن أبي سلمى.
بانتظار الشابة الكردية القادمة إلى دمشق، ومن ثم إلى حلب، كنت أرقب حشود الداخلين إلى الصالة، نساء ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً وعجائز، وأتابع أحاديثهم بغير لغة، عربية وكردية وآشورية و..، ثم وهم يدفعون إلى الموظف ببطاقات هوّياتهم الشخصية التي تعلوها عبارة واحدة: الجمهورية العربية السورية.