الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الشوكة الواخزة..!

 

حسن حميد

أجل، هو أمر أليم، وموجع، ويصدر عن ذات تشكو من عدم صوابيتها، وعلى نحو من اثنين، إما أنها تجهل ما تفعل، وإما أنها قاصدة لما تفعل! هنا أتحدث عن شأن من شؤون الترجمة حين تصير الكتب المنقولة من اللغات العالمية إلى لغتنا العربية، بلا دراية أو تقصٍ، فتهبط هذه الترجمات مثل هبوط الصخور الثقيلة المخيفة من أعالي الجبال لتستقر في الساحات والدروب وفوق البيوت والأنفس!
أقول هذا لأن معظم المترجمين العرب يمضون في دروب بعيدة عن الثقافة والمعرفة، هذه الدروب هي دروب الهوى والدعاية ورغبات الآخرين، هذا ناهيك عن عدم وضوح الرؤيا، وغياب المنهج، وضبابية الأهداف، وضياع حسّ المسؤولية وتشتته، ولتوضيح هذا الأمر سأقف عند نماذج مترجمة غدت اليوم ظواهر جلية في حقل الترجمة، ومنها ترجمة كل ما أصدره الكاتب التشيكي ميلان كونديرا من دون أن يعرف المترجم من هذا الكاتب، وما هي ثقافته، وإلى أين تمضي توجهاته، وما هي الأهداف التي يعمل عليها، ترجمة مؤلفات ميلان كونديرا، في البلاد العربية (شرقاً وغرباً) غدت ظاهرة في الترجمة تذكرنا بالترجمات التي نقلت الأدب الروسي منذ بدايات القرن العشرين المنصرم، وعدا عن التسابق المحموم بين المترجمين، ودور النشر على مؤلفات كونديرا، تسابقَ النقادُ العرب، وأساتذة الجامعات الذين يدرّسون الأدب الفرنسي للحديث عن مؤلفاته لتقريظها، مثلما تسابق القراء على قراءة ما كتبه وقد صدرت مؤلفاته باللغة العربية، وكذلك تسابق أهل المنابر من أجل الحديث عن كونديرا بوصفه ظاهرة أدبية، ومبدعاً من الصف الإبداعي الأول.
والحق أن كونديرا المولود سنة /1929/ هو كاتب تشيكي/يهودي، هاجر إلى فرنسا سنة 1975، بعد أن جهر بالحديث عن ما حدث في بلاد التشيك سنة 1968 (ربيع براغ)، وصرح أنه كاتب ماركسي، وكل هذا عادي جداً، ولا يتعارض مع قيمنا وأهدافنا ورؤانا، فأدبه يقرأ حتى لو أساء إلى الاتحاد السوفييتي، أو مدح اليهود وقدمهم على جميع أجناس البشر، ولكن أن يصرح جهراً بأن الكيان الصهيوني الذي أقيم عنوة عام 1948 على دماء وجثث وأحزان الفلسطينيين، هو البقعة الجغرافية الحضارية التي ستحضّر بلاد العرب الغارقة في التخلف الآسن، فهذا كلام خطير ويمسّ كل نبيل تربينا عليه ونربي عليه أولادنا! وأن يقول كونديرا إن الكيان الصهيوني هو قلب أوروبا وروحها ووجهها الحضاري فهذا شأنه، ولكنه كلام خطير أيضاً لأن كونديرا يصبح، أعمى وأكثر، لأنه لا يرى ما يفعله الكيان الصهيوني بأهل البلاد الأصليين، أعني الفلسطينيين، لا يرى قتلهم الجهير فوق الأرصفة، ووسط الدروب والطرق، وداخل بيوتهم، ولا يرى سجون الاحتلال الإسرائيلي وما يحدث فيها من أفعال الإماتة لكل ما هو وطني وحي ونبيل في نفوس أبناء فلسطين الذين قضوا أعمارهم في المعتقلات الإسرائيلية، وليس هم فقط بل هم وأولادهم وأحفادهم، ومن قبل أجدادهم وآباؤهم!
والمترجمون العرب الذين يتسابقون على ترجمة ميلان كونديرا، لم يروا ما يقوله كونديرا في مقالاته المادحة للكيان الصهيوني التي ينشرها في الصحف والمجلات أولاً ثم ينشرها في الكتب ثانية، ولم يدركوا أبعاد حيازته على جائزة القدس لتي يقدمها الكيان الصهيوني باسم الحكومة الإسرائيلية؛ لقد أشاع الإسرائيليون أن جائزة القدس التي تمنحها حكومتهم هي مقدمة طبيعية للحصول على جائزة نوبل، ولهذا تهافت الكثير من أدباء العالم المعروفين للحصول على هذه الجائزة ومنهم الكاتب البيروفي فاراغاس يوسا (1936).
ما أود قوله هنا، وعبر هذه الأسطر، إن الترجمة أمانة ثقافية ووطنية، وفعلها فعل الإبداع الذي يصدر عن الوجدان، وليست مجرد مهنة لكسب الرزق، إنها هوية المترجم ووجدانه، فأين هي هوية المترجم، وأين هو وجدانه.. حين يغدو ميلان كونديرا (وهذه هي آراؤه) معروفاً لدى دور نشرنا العربية، وجامعاتنا، ونقادنا، ومنابرنا الثقافية، وقرائنا أكثر من أهم المبدعين العرب، إنه سؤال موجع، ولكن لابدّ من استلال الشوكة الواخزة لتطمئن الروح!

Hasanhamid55@yahoo.com