الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

مُراقَبَة

عبد الكريم النّاعم
خلال جلسة مشحونة بالبوح قال له: “ما بك يا رجل؟! ارحم نفسك، تظلّ كالوتر المشدود، نسمة الهواء إنّ لم تأت كما تريد، توتّر أعصابك، وتكتم ذلك، وهذا مدمّر، وأنت تعرف ذلك، ولا تحتاج لمن يرشدك”.
نفخ نفخة طويلة بهدوء وقال: “لقد حاولتُ أن أدرّب نفسي، على إيقاف الدماغ عن الشغب، والمتابعة، على طريقة “اليوغا”، وبحسب ما قرأت عنها، دون معلّم، فلم أُفلح”.
قال له: “يا رجل، الحِكَم التي نحفظها، ونردّدها هي ابنة التجارب، خلّفها لنا مَن سبقنا لنتجنّب ما فيها من عثار، وغمّ، ومنها: “مَن راقبّ الناس مات همّاً”.
أجابه: “صدّقني أنني لست معنيّا بمراقبة الآخرين، ولستُ متطفّلا على شؤون الآخر، بيد أنّني مخلوق، كآخرين، بطريقة ما تكاد تترك فرصة لاتخاذ الشهيق المريح، اسمع على صفحة الفيسبوك نشر أحد الأطبّاء أنّ تلميذا راجعه وشكى له من أنّه يشعر بتعب شديد، فطلب منه أن يصعد على طاولة الفحص، فألقى ذلك التلميذ حقيبة كان يحملها على ظهره، وحين اقترب الطبيب ليفحصه، أراد أن يزيح الحقيبة فشعر بأنّه شبه عاجز لثِقَلها، وأعاد هذا الطبيب مسألة خطورة هذه الأوزان، وقد كُتب عنها الكثير في أكثر من ميدان، ولكنّ كلّ ما كُتب لم يحرّك ساكنا، حتى لكأنّ ذلك أمر مقصود، لأهداف، إمّا أنّ الجهل وراءها، أو الخُبث، هذه الحادثة استدعت لذاكرتي كيف كنّا في (الكتّاب)، يأخذ الأب ابنه ويقول لشيخ الكتاب: “اللّحم لك والعظم لنا، المهمّ أن يتعلّم”، ولك أن تتصوّر انعكاس هذا الكلام على طفل في السادسة من عمره، وحين أرسلوني إلى المدرسة في المدينة، لم يكن الأمر أحسن حالا، إلاّ من حيث مواد الدراسة، أمّا الخوف والرّهبة فقد ظلّا يحيطان بنا من كلّ جهة، فعلاقتنا علاقة خوف، لا أثر فيها للحب، بينما نظريات التربية الحديثة تقول علّم الطفل من خلال اللعب، من خلال المرح، من خلال الحبّ، ولم يقل أحد علّمْه من خلال العتالة!.
أفتح التلفزيون، وهذا تكرّر أكثر من مرّة، أنني ذهبت لقناة “العالم” من سوريّة، أظنّ أنّ هذا اسمها، وقد أسعدني هذا التركيز فيها على المناطق السياحيّة، والأثريّة، والحرف التي تكاد تنقرض، ورغم معرفتي التي لا أعتبرها قليلة بمناطق بلدي، فقد كانت طريقة العرض، والتعليق تشدّني لدرجة أنّها تضيف لي جديدا فوق ما أعرفه، وأتساءل لماذا لا يكون شيء كهذا، على شاشتنا؟! لماذا يغلب الاستهلاك، وفكرة “هات أيدك والحقْني” على الكثير الكثير ممّا تبثّه فضائياتنا؟! وهذا يستدعي سؤالا آخر، لماذا غابت عن شاشاتنا تلك الحفلات الراقية التي قّدمت في دار الأوبرا، هذا العام، مرافقة لمعرض دمشق الدولي، واكتفوا بتقديم الذي تخضّه وتخضّه فما تجد فيه شيئا من الزّبدة؟، أهو الاستسهال، أم غياب الذوق الرفيع، أم فقدان جلسات التقييم، فالأمر متروك على طريقة “كلْ مين أيدو ألو”! وهذا استدعى بشكل آليّ السؤال عن حجم البرامج الفكريّة الثقافيّة، وما نسبتها في برامج فضائياتنا السوريّة؟ هذا في بلد أساس صموده الثبات على مبادئ الوطنيّة والمقاومة، أليس نشر الوعي في مجتمعنا الذي لم يبق فيه موضع شبر دون جراح، أليس نشر الثقافة شرطا في التوعية، وفي التربية، وفي التنوير وفي إعداد الأجيال؟!.
أخرج إلى الشارع لأمشي لعدّة دقائق لا أكثر، فتصدمني أكياس القمامة المرميّة في الشارع، المبعوجة، والتي تسيل القمامة منها، فكلّ بيت يقذف بقمامته فيه متى شاء، وكأنّهم لا يعرفون موعد مرور سيارة القمامة، يقذفونها بلامبالاة، ودون اهتمام للآخر، أو به، المهمّ أن تُخرج من البيت، فأتساءل متى تصبح نظرتنا للشارع على أنّه امتداد للبيت؟! وتسألني ما بي؟!
قال له: “لقد حقنتَ عروقي غيظاً، وملأتني توتّرا، وصبغتَني بالسّواد، خاطرك”، وقام وغادر.
aaalnaem@gmail.com