الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أيّهذا الشاكي (1)

 

د. نضال الصالح
وبعد أن أصغى الأستاذ إلى آخر طلابه الذين كان كلّ منهم يستعيد ما حفظ من قول مأثور عن الأمل، قال: أحسبُ أنّه ما مِن بديعة في الشعر العربيّ، وربّما العالمي، تمجّد الأمل كبديعة إيليا أبو ماضي، التي مطلعها: “قال: السماء كئيبةٌ! وتجهّما/ قلتُ: ابتسمُ، يكفي التجهّم في السما”، ثم قرأ القصيدة بأبياتها التي تزيد على عشرين بواحد، ثمّ أملاها عليهم، وطلب إليهم أن ينعموا النظر في كلّ بيت، وأن يختار كلّ منهم البيت الذي أعجبه أكثر من سواه، بل أكثر تعبيراً عن ثقافة الأمل بوصفها ضرورة للحياة كما قال.
وبعد أن أتمّ الطلاب قراءتهم الصامتة للقصيدة، وما إن وضع كلّ منهم خطاً تحت البيت الذي راق له، أو الذي رآه أكثر عمقاً ودلالة، بتعبير الأستاذ الشيخ، رفع مجد يده مستأذناً في الكلام، فقال: “شاعر حالم يا أستاذ”، ولم تكد العيون تجحظ نحوه، حتى أكمل: “شأن الشعراء الذين لا حول لهم ولا قوة سوى الأحلام”، وتابع: “الشعراء الشعراء يا أستاذ، لا أدعياء الشعر، فأولئك، أقصد الأدعياء، يستغرقهم الواقع حتى يكونوا على صورته تخمةً بالخراب”. وعندما علا ما يشبه الصخب في القاعة استنكاراً لمضيّ مجد بعيداً عن طلب الأستاذ، قال الأستاذ الشيخ وثمة ابتسامة فرح تضيء وجهه: “أكمل يا مجد، أكمل يا بنيّ”، وردّد عبارة مجد نفسها: “الشعراء الشعراء، لا أدعياء الشعر”، وأضاف: “والكتّاب الكتّاب، لا المتسولون بالكتابة ولا المتوسلون بها، الشعراء لا النظّامون، والروائيون لا الحكاؤون، والنقّاد لا الشارحون والواصفون”، وألحقها بالقول: “أجل يا مجد، أجل، ثمّة فرق”، وكان يعني ما عناه مجد، الإبداع وظلّه.
قال مجد: “ليس في القصيدة ما ترى، بل ما تحسب، يا أستاذ”، وقبل أن تغادر العيون محاجرها تماماً تابع: “اعذر جرأتي يا أستاذ”، فازدادت الابتسامة إيناعاً في وجه الأستاذ، وقال: “أكمل يا مجد، أكمل يا بنيّ”، ولم يكد يكمل ياء الكلمة الأخيرة، حتى ازدحمت عينا مجد بالدمع، دمع باهظ الملوحة لكنه تمكّن من لجم هديره بينما روحه ترفرف بعيداً عن القاعة الصغيرة، حيث قبر والده الذي كان يصرّ على استخدام الكلمة نفسها، بنيّ، على الرغم من أنه لم يكن تلقّى أيّ تعليم في حياته. تلك الليلة أحكمَ حرّاس مملكة النوم أبوابها أمام عينيّ مجد، ولم يكن أمامه ليغالب قوّتهم العاتية غير استعادة القصيدة غير مرة، بينما ذاكرته ترتد إلى ذلك اليوم، بل ذلك الصباح الحزين الذي بلغه فيه موت والده بعد مرض مباغت كان نهش رئتيه، ولم يستطع الأطباء تفسيراً له، ثم أقعده عن الحركة سنوات، ثم انتهى به إلى دار البقاء.
منذ ذلك الصباح، وحتى صباح ذلك اليوم الذي تعرّف فيه إلى قصيدة أبي ماضي، ومجد لا يعرف من الحياة غير متواليات المواجهة مع الحياة، ليس أيّ حياة بل تلك المرهقة بظلال الأشياء، أو بأشباهها، أشباه بشر وليسوا بشراً، وأشباه أفراح صغيرة وليست أفراحاً، و…. (يتبع).