الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

الوعد الرجيم..!

حسن حميد

الآن، وبعد مرور قرن من الزمن الثقيل الموجع الغاصّ بالدماء والمفتوح مثل شدق تمساح على المجازر والمقابر والفقد الأليم. أتساءل هل حقاً حدث مثل الأمر واقعاً وعياناً! أعني هل أعطت الحكومة البريطانية التي لها مجلسان يتحدثان عن الديمقراطية، وحكومة تنادي بالعدالة الاجتماعية، وملكة (أو ملك) لا حديث لهما سوى الحديث عن السعادة والرفاهية، ولها فلاسفة يدرّسون الطلبة في الجامعات حقوق الإنسان، والديمقراطية، والقيم النبيلة، وأدباء وكتّــاب وشعراء تغنوا بالأمكنة طبيعةً وقرىً ومدناً حتى غرقوا جميعاً في الهموم الاجتماعية، والرومانسية، ومسرحيون، ومغنون، وموسيقيون خُلقوا من أجل إسعاد الناس، وشق الدروب نحو الأماني طلباً للصفاء والنقاء وتخففاً من أوزار الحياة..
أيعقل! أن بلداً يتحدث عن ثورات زراعية وصناعية وسياسية وثقافية ومعلوماتية.. هو من كان السبب الجوهري في النكبة الفلسطينية حين دُفع أحد وزراء الحكومة البريطانية إلى أن يصوغ عشرة أسطر طافحات بالظلموت تعطي الصهاينة (الذين وبّختهم الكتب، والتواريخ، والتقاليد الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية، والفنون، والجغرافية، والسياسة، والثقافة.. توبيخ من لا يليق به أن يكون إنساناً بعدما اقترفوا الأذيات الكبار أينما حلّوا، في مشارق الأرض ومغاربها) وعداً لتكون أرض فلسطين أرضاً لهم، وليكون الوطن الفلسطيني وطناً لهم، وأن يُطرد الفلسطينيون من قراهم ومدنهم إلى خارج الحدود الفلسطينية التي رسمتها أقلام الشر البريطانية/الفرنسية بالأحبار الشيطانية!
كيف، ولماذا؟! وأين هو القانون الدولي؟! وأين هي القيم الإنسانية؟! وأين هو تأثير الكتب والثقافات والمعارف والفنون؟! وأين هي الشرائع الدينية وما قالته، وما سعت إليه، وما حلمت به؟! وأين هي قولات الدساتير من احترام الشعوب الأخرى، إلى الاعتراف بسيادتها، وإلى صون كرامة أهلها!
مدهش وراعب، في آن، أن تكون بريطانيا التي تُفاخر بما تفاخر به، هي التي أسست الكيانية الصهيونية في البلاد الفلسطينية العزيزة، ذات التاريخ الماجد، الأرض الطاهرة، والعقيدة المنادية بالمحبة والإنسانية، وهي، بريطانيا، التي حمتها، وأمدّتها بالسلاح، وهيأت لها كل أسباب الموجودية والحضور والتفوق على أهل فلسطين، وفي جميع الميادين، وفي مقدمتها التفوق العسكري!
وأليم وفادح في صورته ومادته هذا الوعد الآثم الذي أطلقه بلفور وزير خارجية بريطانيا في 2/تشرين الثاني عام 1917، مثلما هو آثم وفادح في ظلموته ذلك الاحتلال البريطاني للبلاد الفلسطينية منذ عام 1917، لقد ربّت الذهنية البريطانية الصهاينة الذين تدفقوا عبر هجرات سهّلت أمرها القيادات البريطانية إلى الأراضي الفلسطينية، فاستقروا في قرى الساحل الفلسطيني ومدنه، مثلما استقروا في الجليل والنقب والأغوار وبحماية بريطانية، لقد درَّبتهم بريطانيا على السلاح الذي ملأت به معسكراتهم ومستوطناتهم، ووضعت هربرت صموئيل اليهودي مندوباً بريطانياً سامياً الذي قال عام 1920، وفي مدينة القدس، جئت لأنفذ وعد بلفور! أي لتكون البلاد الفلسطينية وطناً قومياً للصهاينة!
الآن، تمر مئةُ سنة وأزيد على هذا الوعد الشيطاني والمقاومة مستمرة من أجل محوه لأن الشعوب لا تنسى الأفعال الشائنة بحقها، والأرض لا تنسى بأن من يجثم على صدرها غريب، وشيطان، وقاتل، والذاكرة لا تنسى دم الأجداد والآباء، وصيحات الجدات والأمهات المفجوعات بحالات الفقد الأليمة!
بلى، ما دامت المقاومة رايةً، ونشيداً، وهتافاً لأرواحنا.. فإن الوعد الرجيم ماضٍ إلى المحو والزوال آجلاً أو عاجلاً.

Hasanhamid55@yahoo.com