دراساتصحيفة البعث

طبيعة عمل لجنة مناقشة الدستور

الدكتور نجـم الأحمـد
أستاذ القانون العام في جامعة دمشق
ولدت الأزمة السورية في كنف تدخلات غير مسبوقة في صميم الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة كانت قد أسهمت في تأسيس المنظمة العالمية الأم، وأعني بذلك الأمم المتحدة، وكذا جامعة الدول العربية، وغيرهما العديد من المنظمات الدولية والإقليمية، دولة مارست على الدوام أقصى صور الالتزام بأحكام القانون الدولي، ولكن ما لبثت أن عانت من الإرهاب وشروره، فتداعت عليها مرتزقة الأرض من بقاعها كافة كي تعيث فيها خراباً وتدميراً وقتلاً وتخريباً.. ذلك الأمر دلالاته قائمة لدى الكافة ممن عاصر المرحلة الراهنة، فرأى الجميع بأم العين كيف يتم تخريب دولة بناها الشعب بكفاحه عبر عقود خلت.
ولعلّ هناك من الدروس ما يمكن الإفادة منه سواء في المرحلة الراهنة أو المستقبلية، فسيظل الفقه القانوني حائراً عن أن يجد تفسيرات مقنعة لما قامت به بعض من الدول من ممارسات عكست أفقها المحدود وهمجيتها السياسية، بما في ذلك دول ادعت أنها معنية بنقل المدنية والحضارة إلى شعوب الأرض، وأخذت ذلك كالتزام يملى عليها بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، لكنها ما فتأت في الواقع العملي أن ضربت بهذا الميثاق عرض الحائط، متجاوزة ما يمليه من أحكام، كما تجاوزت كل المعايير القانونية التي تعكسها المواثيق والمعاهدات والأعراف الدولية، لا بل إنها تجاوزت حتى حدود المعايير القيمية والأخلاقية.
وإن كان ما سبق لا يعكس مباشرة الموضوع الذي نحن بشأنه اليوم، إلا أن الموضوع في مجمله هو انعكاس لتلك الحالة المرئية التي نعايشها على أرض الواقع للسنة التاسعة على التوالي.
وما نود الإشارة إليه أننا اليوم إذ نلحظ ذاك الاهتمام بتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد للجمهورية العربية السورية، أو حتى وضع دستور جديد بأكمله، أو تعديل الدستور النافذ في جزء أو أجزاء منه.. نقول ربما لا يعرف الكثيرون أن هذه المحاولة تأتي، وقد سبقها من الناحية الزمنية قرن مضى، وأعني بذلك عام 1920 حينما تم في هذ التاريخ وضع دستور لسورية. نعم فمنذ ذلك التاريخ كان في بلادنا دستور مدوّن، في وقت لم تكن فيه بعض من دول المنطقة قد ظهرت إلى حيّز الوجود بعد.
وفي المراحل كافة التي مرّت بها الدولة، لم يكن هناك أي فراغ دستوري، بدءاً من دستور عام 1920 المشار إليه، ثم صدر دستور عام 1930، ومشروع دستور 1949، ودستور عام 1950، ودستور عام 1953، ودستور الوحدة عام 1958، والدستور المؤقت عام 1964، والدستور المؤقت عام 1969، والدستور المؤقت عام 1971، ودستور عام 1973، والدستور النافذ عام 2012.
وما لا شك فيه أن دراسة إعداد الدساتير تعكس درجة التطور السياسي والمجتمعي، ومرحلة التقدّم باتجاه إرساء فكرة الديمقراطية، والمشاركة السياسية. وقد ظهرت الأساليب الديمقراطية في إعداد الدساتير مع ظهور مبدأ “سيادة الشعب”، أخذاً في الحسبان الظروف التاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وبالقوى المحركة لعلاقات الأفراد داخل كل دولة من الدول.
ونظراً للأهمية البالغة التي تحظى بها الدساتير في حياة الأمم فقد جرى الفقه الدستوري على التمييز في وضع الدساتير بين السلطة التي تضع الدستور، وتسمّى السلطة التأسيسية الأصلية، والسلطة التي تختص بتعديل الدستور، وتسمّى بسلطة التعديل.
ويظهر عمل السلطة التأسيسية الأصلية عندما لا يوجد دستور للدولة أصلاً، كميلاد دولة جديدة، أو حصول إحدى الدول على استقلالها. وتعدّ هذه السلطة أسمى السلطات العامة في الدولة، لأنها تنظم صلاحيات السلطات الأخرى كافة.
هنا جاز لنا التساؤل من أجل تحديد الطبيعة الحقوقية للجنة صياغة الدستور المنعقدة في جنيف: هل هي سلطة تأسيسية أصلية أم سلطة تعديل، أم أن أي من الوصفين لا ينطبق عليها؟ وبطبيعة الحال فإن الإجابة على هذا السؤال تقتضي منا التعريف –ولو بإيجاز- لكل من الصورتين سابقتي الذكر.
السلطة التأسيسية الأصلية هي السلطة التي تعلو على السلطات العامة في الدولة كافة، ويعود لها صلاحية وضع الدستور. إنها سلطة أصلية، عليا، متفردة، وغير مشتقة من أي سلطة أخرى. وهي متميّزة عن غيرها من السلطات التي يحدثها الدستور، لهذا يطلق على هذه السلطات التي تنشأ بموجب أحكام الدستور اسم السلطات المؤسَسة تمييزاً لها عن السلطة التأسيسية الأصلية.
وعلى هذا يكون لدينا سلطتان، سلطة لوضع الدستور إنشاءً وتعديلاً، وسلطة أخرى تظهر تحت اسم سلطة التعديل، ويكون منصوص عليها في الدستور السائد.
ولكن ما هو الأساس الذي تستمد منه السلطة التأسيسية الأصلية مصدرها؟ وما هي الطبيعة الدستورية والقانونية لعملها؟
يقتضي الحديث عن السلطة التأسيسية الأصلية ربط دراسة عمل هذه السلطة، أو قانونيتها بدراسة تطور فكرة السيادة في الدولة، ومن ثم تحديد صاحب السيادة الحقيقي في الدولة، وفيما إذا كان فرداً، أو هيئة، أو الأمة، أو الشعب؟
ذلك أنه بتطوّر فكرة العقد الاجتماعي تطوّرت الأفكار الديمقراطية التي مؤداها أن الشعب هو صاحبة السيادة. وترتّب على ذلك بصورة لاحقة أيضاً انفراد صاحب السيادة بوضع الدستور، إما من خلال جمعية تأسيسية، أو بطريق الاستفتاء الشعبي، أو الدستوري.
لكن المشكلة التي واجهت الفكر الديمقراطي هي كيفية إسناد السلطة إلى الشعب ليمارس فيها السلطة التأسيسية الأصلية؟
وبمعنىً آخر، فإن فكرة التمثيل لا يمكن تصوّرها إلا بعد إقامة الدستور، أما قبل ذلك فلا نستطيع القول بوجود تمثيل، والسبب في ذلك أن الدستور بعد إنشائه هو الذي ينظّم هذا التمثيل، فكيف نعطي السلطة التأسيسية الأصلية إلى أصحابها من دون تمثيل؟ وعلى أي أساس تقوم هذه السلطة بإنشاء الدستور وإعداده؟ وكيف نميّز هذه السلطة عن سلطة التعديل؟
من الناحية الواقعية فإنه لا يمكن تصوّر تفسير مرضٍ حتى الآن كي يحوّل الواقع إلى قانون، وبهذا فإن السلطة التأسيسية الأصلية تجد أساسها في الدستور الذي يحدد اختصاصاتها. أما سلطتها فإنها مطلقة، ولا يحكم شكلها قواعد قانونية مسبقة، وهي التي تمارس هذه السلطة وفق التصوّرات والأشكال التي ترتئيها. كما أن حدود هذه السلطة وصلاحياتها إنما تتحدد بالدستور، وفكرة القانون.
والسلطة التأسيسية الأصلية تبعاً لهذه الإيديولوجيات ذات طبيعة سياسية، تنظّم نفسها بوضع القواعد التي ستمارس وفقاً لها اختصاصاتها، وصلاحياتها. ويمكن أن تظهر بشكل سلطة تأسيسية فتقيم الدستور، أو بشكل سلطة تضع قواعد لتنظيم السلطة وقواعد منظّمة وملزمة لسلوك الأفراد، أي كسلطة تأسيسية.
ومع نشوء الفكر الديمقراطي وتطوّره منذ القرن الثامن عشر اتجه العمل إلى الأخذ بالأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير، والتي يمكن حصر أهمها بالآتي:
1- الجمعية التأسيسية أو المؤتمر:
نجم عن استقرار مبدأ سيادة الشعب في الحياة السياسية قيامه بانتخاب ممثليه الذين تتشكّل منهم جمعية تأسيسية تطبيقاً حقيقياً للديمقراطية النيابية.
وفقاً أسلوب الجمعية التأسيسية (المؤتمر) يقوم الشعب بانتخاب هيئة تمثّله خصيصاً لوضع الدستور، وتسمى هذه الهيئة التمثيلية بالجمعية التأسيسية (المجلس التأسيسي)، وتكون مهمتها مخصصة بوضع الدستور، أو إلغائه، بمعنى آخر يناط بها ممارسة السلطة التأسيسية الأصلية. تقوم هذه الهيئة – وتبعاً لدرجة النضج السياسي لأفراد الشعب – بوضع الدستور الذي تستلهم فيه الفكرة القانونية الموجودة في المجتمع.
المهم في أسلوب الجمعية التأسيسية هو التأكيد على أن الأمة هي صاحبة السيادة من جهة، وأن تكون هذه الجمعية مشكّلة بطريقة الانتخاب حصراً من الأمة من جهة أخرى. وهذا يستتبع أن تكون هذه الجمعية هي صاحبة السلطة التأسيسية.
هذا يستتبع أن سلطة وضع الدستور إنما تنحصر في الأمة، أو الشعب الذي ينتخب ممثّليه خصيصاً لوضع الدستور، ومن ثم بمجرّد وضع الدستور وإقراره ينتهي عمل هذه الهيئة النيابية، أو التمثيلية.
2- الاستفتاء الدستوري أو التأسيسي:
يعدّ الاستفتاء الشعبي مظهراً من أهم مظاهر الديمقراطية. ووفقاً لهذا الأسلوب يقوم الشعب بوضع الدستور بطريقةٍ مباشرة، ويمارس السيادة بنفسه، وليس من خلال نوّاب عنه.
إن أسلوب الاستفتاء الدستوري يذهب أبعد مما تذهب إليه الجمعية التأسيسية، إذ يقتضي أن الدستور الذي تعدّه الجمعية التأسيسية لا يصبح نافذاً إلا إذا عرض على الشعب ووافق عليه. وبمعنى آخر إذا كان دور الشعب في أسلوب الجمعية التأسيسية غير مباشر، حيث يقتصر على مجرّد انتخاب الهيئة التي تتولّى وضع الدستور، فإن دور الشعب في الاستفتاء الدستوري يكون أبلغ أثراً، وأبعد عمقاً في الفكر الديمقراطي، إذ يقتضي تدخل الشعب نفسه بصورة مباشرة في إقرار دستوره.
وبالتالي يمكن أن نتصوّر قيام جمعية تأسيسية، أو هيئة منتخبة، أو لجنة حكومية، أو لجنة فنّية… تقوم بإعداد مشروع الدستور، لكن الدستور لا يصبح نافذاً إلا بعد عرضه على الشعب لاستفتائه فيه، أي بعد موافقته عليه بطريقة الاستفتاء الشعبي.
بناءً على ما تقدم فإن طريقة الاستفتاء الدستوري تعني الممارسة الحقيقية للديمقراطية بأن يمارس الشعب بنفسه مباشرة التعبير عن سيادته، والاشتراك في ممارسة السلطة التأسيسية.
3- التصديق الشعبي:
تبعاً لهذه الطريقة يجري إعداد مشروع الدستور من قبل لجنة حكومية، أو لجنة فنيّة، ثم يستفتى الشعب فيما بعد. وبمعنى آخر فإن إرادة الشعب لا تظهر من خلال “جمعية تأسيسية منتخبة”، أو من خلال “ممثّليه” بشكل يسمح لنا بالقول إن الشعب قد عبّر عن رأيه بصورة ديمقراطية، والغالبية من الفقه ترى في هذا الأسلوب مظهراً من مظاهر ممارسة الشعب لسيادته بنفسه.
وعليه فإن لجنة صياغة الدستور، أو لجنة الدستور، أو أياً كانت التسمية التي نريد إطلاقها عليها لا ينطبق عليها وصف الجمعية التأسيسية بالنظر إلى كيفية تكوين هذه اللجنة، فهي لم يجرِ اختيارها من قبل الشعب السوري، بل تكوّنت من ثلاثة فرقاء أحدهم مدعوم من الحكومة السورية، والآخر جرى اختياره من قبل جهات تسمّي نفسها على أنها جهات معرضة، فيما اختارت الأمم المتحدة الفريق الثالث على فرض أن أعضاء هذا الفريق من ممثلّي المجتمع المدني، وذلك بأعداد متساوية لكل فريق، سواء في اللجنة الموسّعة (50 عضواً لكل فريق)، أم المصغّرة (15 عضواً لكل فريق).
كما أننا لسنا بصدد مشروع جاهز ليصار إلى التصديق عليه بالرفض أو القبول عبر أسلوب التصديق الشعبي.
ولم تكن هذه اللجنة، أو طريقة تشكيلها، أو الدور الذي ستنهض به، منصوصاً عليه في الدستور النافذ، بل عمل هذا الدستور على منح سلطة التعديل إلى مؤسسة خاصة، وفقاً لإجراءات خاصة، كما سنتطرّق إليه لاحقاً.
وأقرب قول يمكن الركون إليه من الناحية المنطقية هو أننا بصدد لجنة سياسية-فنّية، وإن كان الغالب أنها من طبيعة سياسية، لجنة لا يوجد أي مستند دستوري أو قانوني يمكن أن يمنح ما يتمخّض عنها من رؤى صفة الإلزام، فهي أمام فرضين لا ثالث لهما:
الأول: إما أن يقتصر دورها على تعديل بعض مواد الدستور النافذ، وهنا فإن ما تقترحه لن يكون نافذاً إلا باتباع الإجراءات التي نصّ عليها الدستور في المادة (150) منه والتي جاء فيها:
1- لرئيس الجمهورية، كما لثلث أعضاء مجلس الشعب، حق اقتراح تعديل لدستور.
2- يتضمّن اقتراح التعديل النصوص المراد تعديلها، والأسباب الموجبة لذلك.
3- يشكل مجلس الشعب فور ورود اقتراح التعديل إليه لجنة خاصة لبحثه.
4- يناقش المجلس اقتراح التعديل، فإذا أقرّه بأكثرية ثلاثة أرباع أعضائه عدّ التعديل نهائياً شريطة اقترانه بموافقة رئيس الجمهورية.
الثاني: أن يصار إلى وضع دستور جديد بشكل كامل، وفي مثل هذه الحالة يعرض المشروع على رئيس الجمهورية كي يحدد موعداً للاستفتاء عليه. وبمقتضى الفرضية الثانية فإن الاستفتاء يتم بإشراف الدولة السورية ممثلة بسلطتها القضائية.
نستنج مما سبق أن ما تنتهي إليه لجنة جنيف أمره ومآله بيد الشعب السوري، عبر الاستفتاء الدستوري التأسيسي في حال وضع دستور جديد. وإما بيد الشعب السوري بشكل غير مباشر عبر مجلس الشعب في حال الاقتصار على تعديل بعض نصوص الدستوري، أي أن الكلمة الأولى والأخيرة ستكون للشعب السوري، وكل محاولة للنيل من سيادته بهذا الخصوص سيكون محكوماً عليها بالفشل والبطلان سياسياً ودستورياً وقانونياً.