ثقافةصحيفة البعث

“الجوكر”.. الشرير، المجرم. بطلا!

 

من أفلام الإثارة النفسية الأمريكية للعام الحالي،أخرجه تود فيليبس، وتشارك في كتابة السيناريو مع سكوت سيلفر. الفيلم، الذي يستند إلى شخصية من “دي سي كومكس”، يقوم ببطولته “خواكين فينيكس”، الذي يُقدم شخصية “أرثر فليك”، وهو مهرج مغمور، يعيش مع والدته، ويعمل في شركة تؤجره لأدوار محددة وساذجة، يعاني إهمال وضغوط المجتمع، ثم يبدأ بالتحول إلى شخصية المجرم في طريقه لتحقيق طموحه بالنجاح، وبأن يُصبح نجماً.
كاتب النص قام بمغامرة مدروسة في تقديم الجانب الشرير وحده في الشخصية، ونجح هذا في جعل الجمهور يتعاطف معها، مع القاتل، وذلك من خلال تقديم جرعات عالية من الظلم الذي تعرضت له الشخصية، ليصبح لسان حال المتفرج وأمنيته، وهو في علاقة لاشعورية مع ما يشاهده، بأن يقوم البطل ويقتل من ضربه وأذاه، وفي داخل كل شخص، هذا كان أثر تلك القصة الشيطانية ورغم ذلك حقق الفيلم ويحقق نجاحا جماهيريا منقطع النظير لحد الآن في أهم دور العرض العالمية. الحوارات المتقنة في الفيلم، قامت بعمل خطير في سد ثغرات عيوب القصة، في واحد من تلك الحوارات، تسأله الطبيبة النفسية: “هل تشعر بأي أفكار سلبية؟” فيجيبها: “كل الذي املكه هو أفكار سلبية”، أيضا في حوار آخر له مع الطبيبة النفسية، يخبرها: “كنت أظن أن حياتي تراجيديا، لكن اكتشفت أنها كوميديا”، إنه من شدة المعاناة يضحك منها، تلك العبارة جاءت بعد المشهد الذي قتل فيه أمه، وبعد فعلته صار الشر الذي يقوم به مرتبطا بالسعادة القادمة من تحقيق رغباته، فهو لدى خروجه من إحدى دور السينما، تلفت انتباهه عبارة مكتوبة على مدخل السينما، تقول”لا تنسى أن تبتسم”، فيقوم بإزالة “لا تنسى”، لتصبح العبارة “لا تبتسم”، وفِعلته توضح عبارته التي يقولها في أحد الحوارات:”لا تبتسم بل ضع وجها مبتسما”.
قد تكون هذه التجربة الجديدة لشخصية “الجوكر”، في هذا الفيلم الذي يحمل نفس الاسم، ليست إلا عملية دمج بين نجاح وأصداء “فارس الظلام-2008″، وفيلم “الفرقة الانتحارية-2016″، هناك العديد من الأفلام التي عرضت لشخصية “الجوكر”، لكن هذين الفيلمين تحديدا، هما اقرب إلى عكازتين استند عليهما البطل في نسخة “الجوكر-2019″، أي كنا نرى شخصيتين يُقدمهما في آن واحد وفي قصة واحدة، ففي مشاهد المكر والجريمة، نرى “جوكر” عام 2008، الذي قدمه “هيث ليدجر” في فيلم –فارس الظلام، في شخصية شريرة تواجه البطل الخيّر “باتمان”، أما في مشاهد انعدام الرحمة والضعف والبؤس، نرى “الجوكر” الذي قدمه “جاريدليثو”، في “الفرقة الانتحارية”؛ الحديث ليس فقط عن استعارة أنموذج الأداء التمثيلي من الفيلمين، ولكن أيضا عن استعارة الشخصيتين بحذافيرهما، من قبل كاتبيّ نص الفيلم، وهذا ما أدى إلى ظهور فيلم يحقق معادلة صعبة؛ ضعيف على مستوى القصة والشخصية، ولكنه يحقق جماهيرية وأرباحا، فكيف ذلك؟
الفيلم الجديد هذا، يسرق جمهور ونجاح الفيلمين السابقين، ويبدو كأنه جزء ثان لكل منهما، بتلافيه ضعف كل منهما على حدا، فقد كان من ملامح ضعف فيلم “فارس الظلام”، هو أن الشخصية الشريرة “الجوكر” يحدّ ذاتها، تبدو أفضل وأكثر إقناعا من البطل الخيِّر، المعروف بـ “باتمان”، وفي فيلم “الفرقة الانتحارية”، كانت استكانة شخصية “الجوكر” وافتقارها إلى أفعال حادة، مؤشرا إلى كونه لا يمرّ بنقطة تحول؛ هنا في هذا “الجوكر” الجديد، يتم إقصاء “باتمان” عن القصة، للمحافظة على الشخصية الشريرة الأكثر تميزا، ولأنها تفتقر لبعض الماضي والظروف والأبعاد الإنسانية، تم استجلاب ما يملأ هذا الفراغ من “جوكر” الفرقة الانتحارية.
الشركات الخمس العملاقة التي تشاركت إنتاج الفيلم، لم تزل مرتبكة في إعلان التكلفة، فبعضهم يقول “55” مليون دولار، والبعض منهم يرتفع بها إلى “70” مليون دولار، وذلك بعد تردد بأن هل تُضاف تكاليف بعد بدء العرض إلى تكاليف الإنتاج؟ فقد جاءت الجهود المهولة للترويج، بعد البدء في عرضه.
من تلك الجهود، حشد هائل من النقاد العالميين، لكيل المديح والثناء للفيلم، طبعا نُقادنا العرب لا يحتاجون من يحشدهم، لأنهم غالبا يشتغلون وفق مبدأ: “قرأت عند الأجانب الرائعين”، وأيضا هناك جهود هائلة تظهر على شكل رقابة صارمة، تمنع أي قرصنة أو تداول للفيلم خارج صالات العرض، الأمر الذي يدفع بالجمهور إلى الذهاب لصالات العرض، حيث أن الجميع يتحدث عنه، ولا يمكن مشاهدته إلا فيها. جهود التسويق تنجح في التغطية على الثغرات في الفيلم، بعد أن ضمن لنفسه عناصر جمالية مأخوذة من الفيلمين السابقين، ومن تلك الثغرات أن “الجوكر” أو “أرثر فليك”، لا يمتلك ما يبرر هذا التحول العنيف في شخصيته، ويتكئ على التحول البصري عبر اتخاذه هيئة تهريجية، بصباغ الوجه، في إخفاء مبررات التحول النفسي، فيظن الجمهور، أن تحوله مُقنع، بعد أن ظهر كألوان صارخة أو فاقعة.
يساعد في ذلك أيضا المونتاج الذي كان ينتقل بمهارة، بين الإيقاع البطيء قبل التحول، والإيقاع السريع بعد التحول أثناء الجرائم، وهذا ما يدعم بقوة الكادر الجميل الذي لا يتخلى عن جماليته في أية لقطة، هذا قد دفع إلى ظهور بعض الجماليات الخالية من المضمون، ولكنها تُحقق بشكل عام وحدة بصرية للفيلم.
كل تلك الجهود الإخراجية والإنتاجية، كانت للأسف لتقديم شخصية مجرم شرير، معدوم الهدف، يتحرك بشكل آني؛ كان من الأفضل لو جعلوا الطبيبة النفسية هي بطلة القصة، تحاول التأكيد على خطورة ترك المنحرفين النفسيين من غير علاج، وضرورة تقديم الدعم الحكومي لهم، وفق مقولة قد تكون بديلة “انظروا ماذا يحدث للمنحرفين النفسيين الذين نتركهم في المجتمع دون علاج، إلى الشر والجرائم التي قد تنجم عنهم، ويمكننا أن نستشهد بالفيلم الآنف الذكر، لتأكيد وجهة نظرها، لكن ذلك لم يحدث، بل اكتفت هوليود بتقديم مختل، مجرم، يجب أن نُعجب به، ربما كعنوان للمرحلة السينمائية القادمة.

تمّام علي بركات