ثقافةصحيفة البعث

حين يستبد النقد

محمد راتب الحلاق

اثنان يستحقان الشفقة: شخص يطلب ممن عاش قبل مئات السنين أن يفكر بطريقة من يعيش في عصرنا، ويحاسبه على أساس معارفنا وقيمنا، مسقطاً من حسابه ما حدث في سياق التاريخ من تقدم معرفي، وتغير في السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والتكنولوجية، وهذا ما نجده عند بعض النقاد (الحداثويين)، الذين يشتغلون على نصوص أنجزت قبل مئات السنين، فيكرهونها على الاستجابة لمناهجهم المعاصرة، ويقيسونها بمساطرها الفنية حيناً، وبمساطرهم الأيديولوجية غالباً، ويجعلون من النظريات التي درسوها، ثم تبنوها وتعصبوا لها، سرير بروكست، لكنهم هذه المرة لا يكتفون بقص الفائض من النصوص الذي لا يناسب مناهجهم النقدية التي استوردوها من ثقافات أخرى، ومن لغات أخرى، وإنما يقومون عند الحاجة (بالمطمطة) يميناً وشمالاً لتستجيب تلك النصوص لوصفات مناهجهم، إنها القراءة القاسية، كما سماها بعض النقاد، وإنه النقد المستبد والمتعسف الذي لا يعترف بالشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمعرفية والأيديولوجية التي تحكمت بإنتاج النصوص، المهم عندهم ما يقوله المنهج الذي يتعصبون له. وأما الشخص الثاني الذي يثير الشفقة، وقد يكون أشد خطراً من الأول، فهو من المتعصبين للتراث (بعجره وبجره)، لأنه مقدس بزعمهم، لا لشيء إلا لأنه من إنتاج أشخاص عاشوا قبلنا بعدة قرون، وهذا الشخص مازال مصراً على التفكير بطريقة الأسلاف الذين عاشوا في القرون الأولى، وتقليدهم (على العمياء)، مكتفياً بقياس الشاهد على الغائب من دون أي اجتهاد، مسقطاً، هو الآخر، ما جرى في سياق التاريخ من مستجدات ومعطيات لم يعرفها منتجو تلك النصوص، ومتمسكاً بمقولات النقاد القدماء وأحكامهم وأذواقهم.
واضح أن الشخصين يفكران بطريقة تخالف العقل والمنطق، الأول يضمر خبثاً هدفه إدانة الماضي وتسفيه مقولاته انطلاقاً من الحاضر ومعارف الحاضر. والثاني يهمل ما جرى في سياق الصيرورة التاريخية ويصر على القول: (لا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله)، وكأن التاريخ قد توقف حيث يحب ويشتهي هو. الأول يقفز فوق الماضي وكأنه لم يكن، والثاني يصر على السكن فيه ويأبى أن يبارحه، مع أن القراءة النزيهة للنصوص هي التي يقوم بها قارئ (ناقد) عارف، امتلك المناهج النقدية جميعاً، قديمها وحديثها، من دون أن يرهن نفسه عند منهج بعينه، لأن التعصب لمنهج من دون المناهج الأخرى، مهما كانت جاذبية هذا المنهج، قد أنتج قراءات لا يعتد بها من الناحية الفنية والمعرفية غالباً. ولا أقصد بكلامي الانحياز لما يسمى بالمنهج التكاملي، ولاسيما حين فهمه بعضهم على أنه يعني قراءة النص الواحد بالتتالي حسب كل منهج نقدي على حدة، لأن ذلك أنتج قراءات متعددة لا رابط يوحدها، الأمر الذي حول تلك القراءات إلى تدريبات على استخدام تلك المناهج أكثر منها قراءات نقدية للنصوص. وإنما أقصد الشغل النقدي على النص بناءً على حاجات النص نفسه، لأن المناهج النقدية في هذه الحالة تكون قد انصهرت جميعاً في بوتقة ذاكرة الناقد الشخصية، وأضحت (الرسمال النقدي) الذي يمتلكه باقتدار، ويتصرف به حسب طبيعة النص وحاجاته، متحرراً من الرؤية التي تفرضها العدسة المحدبة لمنهج بعينه في حالة الرضا، أو تفرضه العدسة المقعرة في حالة الموقف السلبي من النص أو من صاحب النص.
لعل القارئ قد أدرك أن التشبث بقراءة السلف للنصوص من دون وضعها فوق غربال النقد العقلاني الصارم، أياً كانت هذه النصوص، وأياً كانت شهرة أصحاب تلك القراءة، يعادل في لا عقلانيته التخلي التام عن قراءات القدماء وعدها كأن لم تكن.