ثقافةصحيفة البعث

“حارس الفلة البنفسجية”.. عوالم الدهشة بأصابع معمار

صدرت مؤخراً للأديب مفيد عيسى أحمد مجموعته القصصية بعنوان”حارس الفلة البنفسجية”، وهي مجموعته القصصية الرابعة، وتتضمن عشر قصص متفاوتة الطول تأخذنا إلى عوالم يختارها الكاتب من واقع معاناته لها، وخبرته في تفكيك الشيفرة الخاصة بها ليقدمها بكل ما فيها من حيوية ومفارقات بعين خبيرة، وبلغة تأسر القارئ، وتدفعه إلى الشغف بالتعرف على هذه الشخصيات وعوالمها.

ثمة ثيمة أساسية تطغى على قصص المجموعة هي “القتل”، حيث تتنوع هذه التيمة من القتل الفرويدي، وقتل الضمير، وقتل الخوف، والقتل بالإدانة، والقتل بالنفي، والقتل المحتمل أو الممكن ليصل إلى القتل بالفعل.

في قصة”ثلاثة حقول وأربعة براعم” نحن أمام شكل من أشكال القتل الفرويدي الذي يقوم على موت الرغبة بالقتل عندما تموت صورة الشخص المراد قتله داخل القاتل. طالب الجامعة الذي يعمل حارساً في مسرح المدينة، يصبح بعد أن يغلق المسرح أبوابه هو كل المسرح؛ كاتباً وممثلاً ومخرجاً وقاتلاً وربما قتيلاً، فهو يضمر القتل لممثلة شابة لجأت إليه في ليلة باردة، ثم أقامت معه في غرفته المستأجرة لكنها تتركه دون أن تخبره عن سبب تركها له فتنشأ في داخله رغبة في قتلها، ويحاول أن يجسد ذلك في تخيلاته وتهويماته لدى ممارسته غواية التمثيل وحيداً، لكن رغبة القتل تموت في داخله حين يراها مع شخص آخر ميسور من الوسط الفني، لأن صورتها قد ماتت بداخله.

قتل من نوع آخر نراه في قصة “ما يشبه انعدام الحس”، من خلال شخصية الطبيب الذي يسعى أحد مرضاه لقتله لأنه لم يخرج في المظاهرات، لاسبب لمثل هذا القتل سوى انعدام الحس وموت الضمير، والعجز عن الخروج من الوعي أو “اللاوعي”  القطيعي.

في قصة “الغناء بألسنة مبتورة” يكون القتل بالنفي لمطرب شعبي، لأن أغانيه تطال بعض المتنفذين الذين لم يستطيعوا تحمّل مضمون أغانيه التي تدين ممارساتهم، فيكون النفي خارج المنطقة التي جاء إليها لاجئاً أو هارباً من بطش متنفذين آخرين، يُنفى المطرب الشعبي، أو يتم تجهيل مصيره، لكن أغانيه ستبقى تصدح في حناجر الذين عرفوه.

“وجيب الأرض” من أجمل قصص المجموعة، برأيي، فهي تتحدث عن القتل في هذه الحرب، القتل بلا رادع أو رحمة حتى ولو كان المقتول هو الأخ. هنا نتعرف على شخصية (اللواش) الذي يؤدي الخدمة العسكرية، ولديه خبرة في تحديد نوع المركبات التي تسير على الطرقات، ونوع حمولتها، والمسافة التي تبعد عنه، وهي خبرة اكتسبها من بيئة بدوية صحراوية يتحدر منها. يستخدم (اللواش) خبرته في رصد سيارات المسلحين الذين يحاولون اقتحام الكتيبة التي يخدم بها، ليكتشف في أحد المرات أن سيارة الشيفروليه الخاصة بعائلته قادمة باتجاه الكتيبة على بعد عدة كيلومترات، فيبدأ بالمراقبة والانتظار، ويطلب من رفاقه التهيؤ لاحتمال أن تكون السيارة قد استولى عليها عناصر من أحد التنظيمات المسلحة المعادية، وحين يتأكد من ذلك يطلب من رفاقه التعامل بالنار مع السيارة، ويكتشف في النهاية أن شقيقه هو من كان يقود السيارة بعد أن انضم إلى المسلحين.

في قصة “يونس في تونس.. في بحر مالح” تختفي صورة يونس الذي ابتلعه البحر وهو على مركب مهاجر. والدته لا تكف عن انتظاره لأنها مقتنعة بأنه مسافر وسيعود، لكن تجوال الوالدة في شوارع المدينة، ومشاهدتها لمواكب وصور الشهداء تجعل صورة يونس تغيب لتتماهى مع صور الشهداء المنتشرة في كل مكان من المدينة، وكأن الحرب تقتل القتيل مرتين وربما أكثر.

“صورة أخيرة لحياة مضت” تتناول شخصية (نظير) الإنسان البسيط الذي يعمل عتالاً في سوق الحشيش بمدينة حمص، ويزعم أنه يقرض الشعر مع أنه لا يجيد الكتابة، وفي أوقات فراغه يسارع للاحتكاك بطلاب الجامعة، ويجلس معهم على الرصيف في السوق لإلقاء أشعاره مقابل سندويشة فلافل. يقوم طالبان جامعيان بجمع (الأشعار) في دفترين، ليس لأن ما نطق به نظير كان شعراً بل لأن ما قاله طازج وعفوي يشبه كولاج على السليقة تلقائي وغير مفتعل، وحين يدخل الإرهابيون مدينة حمص يصبح نظير ضحية أشعاره البدائية، فالشعراء كفار يجب قتلهم وفق منطق أصحاب الرايات السوداء والفكر الأسود.

“لا يطيقون الانتظار” نوع آخر من القتل تقوم به امرأة تجد نفسها وحيدة إلى جانب جثة مرمية وهي تنتظر وسيلة نقل تقلها إلى عملها، هي مرت بطرق فرعية وملتوية طويلة لكي تتفادى طلقة القناص، وها هي وجهاً لوجه مع جثة قتيل لا تدري كيف تتصرف، فهي خائفة ومذعورة ومرتبكة، لكن ظهور كلب يريد أن ينهش الجثة يدفع المرأة إلى مواجهة الكلب بغصن شجرة أو بالحجارة، وفي النهاية تنجح المرأة في إبقاء الجثة سليمة حتى تحضر سيارة الإسعاف. يبرع الكاتب في وصف حركات المرأة وهي تقتل خوفها، وفي وصف سلوك الكلب وحركاته في الإقدام، والإحجام، والانتظار.

باقي قصص المجموعة لا تقل في جمالياتها عن جماليات القصص التي تم ذكرها. في مجموعة “حارس الفلة البنفسجية” نحن أمام معماري بارع يجيد قراءة لغة الحجر ومحاكاته قبل أن يقوم بتشذيبهن ليقرر ما إذا كان مكانه في الأساس أم على الواجهة، حيث يبرع الكاتب في وصف شخصياته من الخارج لدرجة يشعر معها القارئ أنه يشاهد الشخصية على شاشة أمامه، (حارس المسرح، اللواش، رجل الكلمات المتقاطعة، المرأة والجثة، الشاعر نظير) وحين يغوص في العوالم الداخلية للشخصيات نكون أمام بانوراما إنسانية تلتقط تفاصيل ما هو أثير ومبدع وفذ في كل شخصية. وما يميز عوالم المجموعة هو أنها كلها تضج بالحياة، فلا سكون، ولا صمت بل حركة نو ربما ثمة غرابة قد تحيل إلى كوميديا سوداء كما في قصة (كلمة من ثلاثة أحرف) حيث يقف شخص فصامي في وسط الطريق غير عابئ بالمارة أو بالسيارات لأنه مشغول بالبحث عن كلمة لحل الكلمات المتقاطعة في جريدة.

(حارس الفلة البنفسجية) ليست مجموعة قصصية بقدر ما هي رؤى مفتوحة على الدهشة تحيلنا إلى ذواتنا للبحث عن الجمال فيها، وفي كل ما يحيط بنا..

مفيد عيسى أحمد في مجموعته هذه ينثر بذور البنفسج في الأرض التي تحترق، ويا لها من مهمة نبيلة بقدر ما هي صعبة ومتعبة.

يحيى زيدو