الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

رِزْمة

عبد الكريم النّاعم

جاء صاحبي الذي تعرفونه من خلال أحاديثي وحواراتي معه، ولكي يملأ الفراغ الذي يتركه الصمت بين اثنين، أو هكذا خَمّنت، قال: “مَن يُراجع الأحداث الدامية التي عانتْ منها سوريّة، والمعركة لم تنته بعد، يقف متحيِّرا، أو شبه حائر في أحسن الحالات، ويكبر السؤال: “إلى متى هذا”؟!
قلت: “ياصديق العمر، الذي مرّ ليس قليلا، بل هو زَلْزلة حقيقيّة، على المستويات كافّة، وهذا مايوجب على الجهات المعنيّة، والتي عُهِد لها بأمانة التصدّي لتلك المجريات، أن تتعامل مع كلّ النّتائج، والمُفرزات، ومع رسم الخطط، للخروج ممّا نحن فيه، وأن تكون على قدر تلك المسؤوليّة، مُبادَرَة، وحساسيةً، وابتكار خطط، وأن تضع في اعتبارها مصلحة الكتلة الأكبر من شرائح هذا المجتمع، اُنظرْ إلى التشظّي الذي خلّفه ذلك الزلزال، وأنا في هذا المجال من القائلين أنّ ماجرى هو مؤامرة خبيثة، حيكتْ بإحكام من قبل دوائر الغرب المتصهينة، وضُخَّ لها من أموال النفط الخليجي مايُطيح بدوَل كبرى، وهذا مايقوله الخصوم قبل الأصدقاء.
انظرْ، ثمّة مَن أدار ظهره للدّين، واعتبرَه مسؤولا أساسيّاً، وكأنّ نافخي النّار يمثّلون الإسلام المحمّديّ السّمح ، وهم أبعد مايكونون، عن إسلام محمّد، إسلام الرّحمة، و”ماينفع النّاس”، إنّهم منساقون خلف آراء واجتهادات بشريّة جعلوا منها (ديناً)، لاسيّما وهّابيّة بني سعود وزمرتهم، وكأنّ الذين قاتلوا ببسالة ضدّ المُضلَّلين والعملاء ليسوا من المسلمين!! وهذا يعني أن انتصارنا القادم، بحول الله، سيكون تحريرا للإسلام المُختَطَف، والمُدَّعى.
ثمّة مَن وقفَ يُراجع المجريات، وذلك العَفَن الذي بَخّه الأعداء، يُراجعه بحيْرة،!!
ثمّة مَن أجاز لنفسه، استنادا إلى موروثات تاريخيّة محمولة، وكامنة، أن يكفّر (الآخر) على أُسُس مذهبيّة، وطائفية، وفِرَقيّة، ويناقش ذلك مع غياب كامل للوعي، وينسى أنّ الأُسَر الدينيّة، والأخويّات، والمذاهب في العالم ماتُكاد تُحصى، ويغيب عن باله أنّ عليه، لو كان لديه ذرّة من الإنصاف، أنْ يقبل آراء الآخرين فيما هو عليه، وهذا، لو راجعْنا التاريخ، لاينتهي، وقد أثبتت الأحداث في بلداننا وفي بلدان أخرى، أنّه لانهاية له، وأنّ الأمم والشعوب التي نعدّها متقدّمة في مستواها المعيشي والحضاري، لم تصل إلى ماوصلت إليه، إلاّ بعد أنْ نحّت تلك الأقاويل، واعتبرت التديّن مسألة فرديّة، بين العبد وخالقه، ورسّخت مبادئ التكافل الاجتماعي، وإشادة البنيان المجتمعي، بما يكفل السلام لها، والطُمأنينة، والرّخاء، ولعلّ المُفارقَة المُثيرة للدهشة أنّ بعض مَن كنّا نظنّ أنّهم نماذج للمعاصرة، والحداثة، والعلمانيّة، والتقدّم، من حملة الأقلام، اصطفّوا على يمين الوهابيّة الظلاميّة، فكانت الفاجعة فيهم أكبر، والخسارة أفْدَح.
ثمّة ياصديقي مَن يقدّم لك طروحات، هي في مضمونها تقدّميّة، ووطنيّة، وتبدو مطلوبة، ويسألك بحدّة لماذا تقف بعض الجهات عمياء عن رؤية تلك الحقائق، ويظنّ أنّه بمجرّد الأخذ بما هو عليه سوف ينقل البلاد والعباد نقلة أخرى، ويكفي أن يؤخَذ برؤيته كبرنامج عمل، هؤلاء ينسون مسألة أساسيّة وهي أنّهم ليسوا الكتلة الاجتماعيّة الأكبر، وأنّ الكتلة الاجتماعيّة المعنيّة في واد، وهم في واد آخر، وأنّ مايطمحون إليه، على نظافته، لاسيّما بعد إشعال تلك الحرائق التي لم تنته بعد، يحتاج إلى مشروع تربويّ، ثقافيّ، اقتصادي، يشمل مناحي الحياة كلّها، وأنْ تُربّى عليه الأجيال القادمة، لتحلّ محلّ الذين عوّقوا، وما يزالون يعرقلون مسيرة التقدّم الوطني، المُرتكِزَة على الشعار الذهبي “الدّين لله والوطن للجميع”.
إنّ الذين يُهاجمون عقائد النّاس، متوهّمين أنّهم يقدّمون لهم سُبُل الهداية، ينفخون في نيران خطيرة، لأنّ الغالبيّة الاجتماعيّة ليست هم ومَن يقول بمقالتهم، ومَن يتجاهل الواقع الاجتماعي، ويريد القفز فوقه، ستكون قفزته في فراغ خطير وسحيق.

aaalnaem@gmail.com