دراساتصحيفة البعث

تركيا.. تاريخ أسود في الترحيل والمذابح

إعداد: هيفاء علي

شكّل إلقاء القبض على النخب المثقفة الأرمنية وإعدامها في إسطنبول عام 1915 بداية الإبادة الجماعية. وفي غضون بضعة أشهر اختفى ثلثا الأرمن في الدولة العثمانية أي نحو مليون وثلاثمائة ألف شخص. وعلى مدى مائة عام، كانت جميع الأقليات في تركيا تدفع ثمن الإفلات من العقاب وإنكار الدولة لحقوقهم.
بعد الإبادة الجماعية التي وقعت في 1915-1916، ظل مصير الأرمن الناجين الذي أُجبروا على أخذ الجنسية التركية بالقوة موضوعاً محظوراً. وكان يجب انتظار تسعين عاماً لكسر هذا الحظر عندما تجرأت المحامية التركية والناشطة في مجال حقوق الإنسان، فتحية سيتين، على نشر مذكرات جدتها، وهي أرمنية شابة تمّ ترحيل عائلتها واختطافها وضمّها إلى عائلة تركية مثلها مثل العشرات من الأرمن الآخرين الذين واجهوا المصير نفسه.
وحتى الآن لا يزال من الصعب إحصاء العدد الدقيق لأحفاد الثلاثمائة ألف من النساء والأطفال الأرمن الذين تمّ تحويلهم قسراً إلى الجنسية التركية، إذ يمكن أن يصل عددهم إلى مليوني شخص. ظل هؤلاء لعقود طويلة عدة صامتين حول أصولهم ومصير أسلافهم، فيما احتفظت الدولة بسجلات عن أصولهم ومنعتهم من تبوء مناصب معينة، كما في الجيش أو التعليم على سبيل المثال.

سلب الممتلكات والذاكرة
إن إحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن، وليست هي الذكرى الوحيدة، يكشف الكثير من الأمور الحياتية الأخرى التي تلقي الضوء على الحضارة الحديثة وبعض إخفاقاتها الخطيرة لجهة المظالم التي لحقت بالضحايا، وإفلات النظام التركي على مدى قرن كامل من العقاب على المجازر الشنيعة التي ارتكبها بحق الأرمن، إضافةً إلى لامبالاة المراقبين تجاه هذه القضية. ولا تزال السلطات التركية حتى يومنا هذا تنكر وقوع إبادة جماعية، زاعمةً أن حالات الاختفاء ناجمة عن نزاع بين الأقليات، وأن ترحيل جميع السكان الأرمن كان ضرورة عسكرية في وقت الحرب، أو لأن الأرمن كانوا متمردين أو مدانين بالقتل الجماعي أو يعملون لصالح روسيا حسب زعمها. وإذا كان الأرمن هم الهدف الرئيسي للإبادة الجماعية التي وقعت في عام 1915، فإنهم لم يكونوا الوحيدين، فقد كان اليونانيون العثمانيون والآشوريون واليزيديون أيضاً ضحايا للمذابح والترحيل بهدف تدميرهم كمجتمعات.
في نهاية الحرب، عندما احتلت قوات الحلفاء الإمبراطورية العثمانية المهزومة، عاد بعض الناجين من الأرمن والآشوريين إلى ديارهم، ولكن بعد حرب الاستقلال انخرطت القوات القومية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك في عملية تبادل للسكان مع اليونان، وأجبرت أولئك الذين عادوا للنفي مجدداً إلى سورية تحت الوصاية الفرنسية، أو إلى العراق، تحت الحكم البريطاني لإفراغ الأناضول من سكانها المسيحيين.
كانت إسطنبول التي كان معظم سكانها مسيحيين في عام 1914، المكان الوحيد الذي استمر فيه اليونانيون والأرمن في العيش بعد هذه الكارثة. استمر عنف الدولة المدمّر ضدهم بطريقتين: حرمانهم من سبل العيش، وتقويض أمنهم الجسدي. في ثلاثينيات القرن العشرين، تمّت مصادرة عدد كبير من ممتلكات الكنيسة والأعمال الأرمنية، بما في ذلك مقبرة “بانغالت” التي أُقيمت مكانها الفنادق الفاخرة الآن، حيث وفرت الحرب العالمية الثانية فرصة جديدة لمهاجمة الأقليات من خلال تقويض وضعها الاقتصادي بذريعة القتال ضد “المضاربين”. فرضت الحكومة ضريبة على الثروة، يتمّ سدادها نقداً فقط بهدف القضاء على برجوازية الأقليات التي بيعت ممتلكاتها للأتراك بسعر أقل بكثير من قيمتها. في أيلول 1955، تم ارتكاب مذابح بتدبير من قبل الدولة في اسطنبول في أعقاب شائعات كاذبة عن هجوم على منزل أتاتورك في سالونيكا باليونان ما أدى إلى نفي عشرات الآلاف من اليونانيين.
في الأناضول تمّ مسح ذاكرة السكان المنفيين، حيث تمّ التخلي عن الكتابة العربية للأبجدية اللاتينية، التي فرضها أتاتورك، لعقود من الزمن باعتباره انتصاراً “للحداثة”. كما تمّ تغيير أسماء عشرات الآلاف من الأماكن الجغرافية من الأرمنية أو الآشورية أو الكردية أو العربية إلى أسماء تركية، وتمّ تدمير الآلاف من الكنائس والأديرة. في عام 1914، كان السكان الأرمن في الإمبراطورية العثمانية يمثلون نحو مليوني نسمة من عدد السكان، لم يبق منهم سوى ستين ألف أرمني فقط في تركيا اليوم. ومن بين 2500 كنيسة وأربعمائة وخمسين ديراً أرمنياً، لم يتبق سوى أربعين كنيسة.
ظلّ الناشطون في مجال حقوق الإنسان يدقون ناقوس الخطر بأنه إذا لم يتمّ الاعتراف بالإبادة الجماعية، فسوف يقدم النظام التركي على ارتكاب جرائم جديدة. وخلال الحرب العالمية الأولى، كان الجيش العثماني تحت السيطرة الألمانية حيث شارك الآلاف من الضباط الألمان مباشرة في تصفية المسيحيين.

حجر الزاوية في “الدولة العميقة”
لقد فشلت تركيا في التخلّص من الإرث المأساوي للإبادة الجماعية، وأصبحت الهيئة المسؤولة عن ارتكاب هذه الجريمة في وقت لاحق العمود الفقري لجمهورية كمال أتاتورك، التي وُلدت على أنقاض الإمبراطورية. كانت الهيئة الخاصة عبارة عن هيكل سري داخل لجنة “الاتحاد والتقدم”، وهو الحزب الحاكم في عهد الإمبراطورية العثمانية، والذي تمّ إنشاؤه لإثارة النعرات الطائفية بين السكان في الإمبراطوريات القيصرية والبريطانية. وفي حال فشلت هذه المهمّة على الجبهة الخارجية، فإن الهيئة الخاصة ستلعب دوراً رئيسياً على الجبهة الداخلية، في تنظيم عمليات الترحيل والمذابح، حيث تدخل ضباطها بشكل حاسم خلال حرب الاستقلال التي قادها أتاتورك ضد القوات اليونانية والفرنسية والبريطانية. وقبل تشكيل حجر الزاوية في “الدولة العميقة” كان عدد من الضباط داخل الجمهورية التركية يتمتعون بسلطة غير محدودة ويهربون من أي إطار قانوني، ارتكبوا اغتيالات سياسية وحاربوا المقاتلين الأكراد وانخرطوا في عمليات تهريب المخدرات تحت أنظار الدولة وحمايتها.
وبعد صمت دام عقوداً عدة، استعادت تركيا بشكل مفاجئ ذكرى الأرمن بفضل أعمال مجموعة من الرجال والنساء الشجعان الذين قاموا بترجمة كتب عن الإبادة الجماعية للأرمن إلى التركية، ما دفع السلطات التركية إلى اعتقالهم وزجهم في السجون غير مرة. كما أن هناك جهوداً كثيفة للمؤرخ “تانر أكوام” أثناء بحثه عن التعذيب في تركيا، ما دفعه لاكتشاف مذابح الأرمن في أواخر القرن التاسع عشر والإبادة الجماعية. وقد أدى تعاونه مع المؤرّخ الأرمني البارز “فاهكن دادريان” إلى إنجاز عدد من الأعمال التاريخية، واستعادة الروابط والصداقة بين المثقفين الأرمن والأتراك الذين باعدت بينهم الإبادة الجماعية، فيما تعهدت مجموعة صغيرة من الأساتذة من جامعة “ميشيغان” بدراسة التاريخ التركي الأرمني من منظور بحثي متعدّد التخصّصات.
ولكن الصحفي الأرمني التركي “هيرانت دينك”، المحرّر في مجلة “آغوس” الأسبوعية، هو الذي جذب انتباه الشعب التركي إلى الإبادة الأرمنية عندما خاطب ضمير الشعب التركي بكلمات بسيطة: “في يوم من الأيام، كان هناك شعب يُسمّى الأرمن عاش على هذه الأراضي، ولكن لم يعد هناك، ما الذي حدث له؟”، إلا أن دينك تعرّض للاضطهاد على يد السلطات التركية، وتمّ جره من محاكمة إلى أخرى حتى تمّ قتله في وضح النهار أمام مقر صحيفته عام 2007، وكان قال ذات مرة: “إن الشعبين مريضان.. الأرمن يعانون من الصدمة، والأتراك من جنون العظمة، فهل يمكن أن نأمل أن للحقيقة قوة شافية”؟.