ثقافةصحيفة البعث

“تقاليد الفقراء” أوجاع الأرمن في الحرب

 

عمل الكاتب بوغوص سنابيان على حماية اللغة الأرمنية في بلاد الشتات من الشوائب بعدما تفرق الأرمن إثر الإبادة الأرمنية، فكتب عن معاناتهم ومواجهتهم الفقر بالمخيمات، وعن ذاك الهاجس المؤجج داخلهم بالتوق إلى الوطن الأم أرمينيا. فليس بغريب أن يجمع بكتاباته ثالوث الحب والحرب والدين في سرده حكايات الحرمان، لتلتقي مع قصص البطولة والنزوع نحو الحرية والعودة. وقد شكّلت مرحلة استقلال أرمينيا فاصلاً حاداً ليستلهم مما قبلها وبعدها، دامجاً بين السياسة والمجتمع والحب، وبقي الدين بدلالاته المباشرة كالكنيسة والقداس وبإيحاءاته الخفية التي نستشفها من الاحتواء بكل درجاته ومعانيه عنصراً بارزاً بكتاباته.
وفي مجموعته القصصية” تقاليد الفقراء” الصادرة عن وزارة الثقافة– الهيئة العامة السورية للكتاب– والتي ترجمتها من اللغة الأرمنية إلى اللغة العربية د. نورا أريسيان، نوّع بأسلوب القص بين القصص الطويلة الممتدة التي تقترب من سمات الرواية وإطلالاتها من حيث البعد الزمني، إلى القصة القصيرة المقتصرة على حدث واحد وزمن محدد، إلى مايشبه روح المقالة، بصوت السارد وضمير المتكلم والانتقالات الزمنية بين زمن الإبادة والحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية في لبنان وتنقله بين سورية ولبنان وحلمه بالوطن الأم المنشود، ونمّت أيضاً عن ثقافته الفلسفية وروحه الثائرة، فنقرأ بوضوح ملامح شخصيته ككاتب وصحفي في كل السطور سواء بقدرته على الوصف أو التحليل.
والأمر اللافت جمالية عناوين القصص الرمزية ليشدنا العنوان تقاليد الفقراء لنتساءَل هل يوجد للفقر تقاليد؟ لنستقرئ المعنى الذي ينسحب إلى قدسية الشهادة والانتصار والأمهات الثكالى وإلى كثيرين يعملون من أجل الوطن. ويعود إلى الحرب العالمية الثانية إلى أجراس النصر بعد حرب مريرة، هذا النصر الذي ينسحب على انتصارنا على الحرب الإرهابية، فمن خلال حوارية بالمدرسة حول يوم استقلال أرمينيا يعود بعد صلاة القداس يستحضر التاريخ وجرائم طلعت باشا، لكن الأرمن كانوا يعيشون المخاض وحاربوا وانتصروا، فيستعيد إنجازات آرام ونازاربيكيان وأنترانيك وسيليكيان” فرساننا الوقادون ينقضون على طلقات العدو المميتة” حتى رفرف العلم الأرمني بألوانه الأحمر والأزرق والبرتقالي.
ويقترب سنابيان أكثر من الانتصار بقصة “نخبك” التي تمضي أحداثها ليلة العام الجديد لكنه يحمل هدايا جديدة بعد سنوات القهر والألم “حتى الناس المقرّحون بالألم الذي يعتصر أرواحهم، يستميلون الأوهام ويستسلمون للآمال” ويصف مشاعر الأرمن بأرض الشتات، الذين يحلمون بالعيد”أراراد موجود داخل كل أرمني، هذا صحيح داخل كل روح هناك شعاع ميسروب” أما الرمز فهو من أحد مكونات النص القصصي لديه ويخط مكانه بين السطور من خلال طائر اللقلق، ويعلل الكاتب ذلك في قصة اللقلق الطيب إلى أنه لدى كل بلد طائر يحبّه مثل النسر والبلبل والقبّرة، أما الأرمن فكان لديهم اللقلق “الحائز على مكانة كبيرة في تقاليدنا وكتبنا وأغانينا وفننا” اللقلق رمز حي يشير إلى جوهره بالإخلاص إلى الوطن والتضحية من أجل استمرارية مسيرة الأرمن.
ويمرر سنابيان بذكاء رسالة بأن الشعب التركي لايمثل حكومته المجرمة عبر تواتر أحداث القصة الطويلة “غصن الزيتون” التي نقرأ فيها بوضوح شخصية الكاتب التي انعكست على شخصية أرداك الشاب الطموح الذي يعمل بالمصرف في لبنان ويمارس عمله الصحفي بعد أن انتقل من سورية إلى لبنان، ليستأجر غرفة صغيرة عند عائلة من اسطنبول عاملته بحنان وعطف، ولتبدأ قصة حبه من النافذة للفتاة الجميلة آلين، ويكون قداس عيد الشعانين بالكنيسة اشتعال شرارة الحب بينهما، لكن الأقدار تقف بينهما وتغير مصير حياة آلين وتمضي بها إلى البحار البعيدة، وترتبط حبكة خيوط الحب مع الدمار الذي خلّفته الحرب الأهلية في لبنان فتهدّم بيت آلين في الحي الشعبي مع البيوت المتلاصقة، وفي الوقت الذي كان فيه ممثلو جمعية “أخوريان” يوزعون الإعانات على المحتاجين في باحة الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية علم من ابنة أخت آلين أنها ماتت في إنكلترا إثر عملية بالأمعاء دون أن تشفى من جروح زواجها من الطبيب الذي حاول استغلال جسدها لجلب المال بهربها من أرداك ومن لبنان إلى مكان بعيد”وطلب منها أن تضع ورقة غصن الزيتون فوق قبر أختها”. وربما تكون أكثر القصص تأثيراً على الذات قصة”موضوع الإنشاء الممزق” التي من خلال باحة المدرسة أيضاً وتدخل صوت الأستاذ وحضور شخصية الطالبة أناهيد، ندخل عوالم الفقر الذي عاشه الأرمن وانعكس على داخلهم بالخوف والمرض والدموع، حينما يطلب الأستاذ أن يكتبوا موضوع إنشاء يصفون به والدهم، فهناك أب مريض أو عاطل عن العمل أو ترك أولاده، وهناك أب يضرب أولاده، وآخر يتحلى بأخلاق هادئة وآخر فظة، أما أناهيد لم تستطع أن تكتب عن والدها الذي أنهكه الفقر ومرض طفلته المستلقية بمشفى “أوتيل ديو” الذي يعد مقبرة الفقراء، لكن الكاتب يفتح باب الأمل بشفاء مارو وعودة الأب إلى حالته الطبيعية، برمزية إلى العودة إلى الأمان والسلام.

ملده شويكاني