دراساتصحيفة البعث

سقوط جدار برلين عزز أحقاد أمريكا

إعداد: هناء شروف

صادف في التاسع من تشرين الثاني الذكرى الثلاثين لانهيار أشهر جدار فاصل في تاريخ البشرية. في ذلك اليوم انتفض مواطنو ألمانيا الشرقية لهدم الجدار الذي مزّق الجسد الألماني لمدة 28 عاماً، وقسّم مدينة برلين إلى قسم شرقي شيوعي تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي، وغربي ليبرالي تحت وصاية بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، لتصبح ألمانيا منذ ذلك الحين حلبة صراع الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. لم يكن جدار برلين مجرد حجارة بل كان رمزاً لتمزق الوحدة الألمانية، فقد شهدت برلين الشرقية قيام دولة ألمانيا الديمقراطية، فيما أقيمت دولة ألمانيا الاتحادية في الشطر الغربي من المدينة وذلك عقب الحرب العالمية الثانية وانكسار النازية.
ولفهم الأحداث التي أدّت إلى بناء الجدار، لابد من العودة إلى شباط 1945، حين انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بقيادة الولايات المتحدة، وتمّ تنظيم مؤتمر “يالطا”، الذي قسّم ألمانيا إلى 4 مناطق يسيطر عليها الحلفاء. حينها انقسمت أوروبا إلى جانب شيوعي في الشرق وجانب رأسمالي في الغرب، لذلك قرّر الملايين من سكان أوروبا الشرقية الهجرة إلى دول الغرب، فمثلاً نزح نحو 2.7 مليون شخص من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية في الفترة بين 1949و1961. وبالتزامن مع هذا الوضع، كانت اقتصاديات المعسكر الغربي تنمو بسرعة، وتقلّ فيها معدلات البطالة، وساعدت حركة الهجرة في تحسين وضع الاقتصاد لأنها سدت العجز في أعداد العمال.
في شهر نيسان 1952، قرّر الاتحاد السوفييتي إغلاق الحدود بين برلين الشرقية ونظيرتها الغربية، إلا أن هذه الإجراءات لم تشهد نجاحاً، إذ فرّ الملايين من برلين الشرقية نحو الجزء الغربي من المدينة، وتحوّلت فيما بعد إلى منتقد لسياسات المعسكر الشرقي.
نتيجة لذلك في 12 آب 1961، أعطى رئيس ألمانيا الشرقية فالتر أولبريشت، أمراً بالبدء ببناء الجدار الفاصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية، ليصبح من غير المسموح لسكان برلين المرور من منطقة لأخرى دون تصريح. وبالفعل، تمّ بناء الجدار على امتداد 155 كم، 43 كم قطعت برلين من الشمال إلى الجنوب، في حين عزلت 122 كم برلين الغربية عن بقية جمهورية ألمانيا الديمقراطية. كانت معظم أجزاء الجدار مكوّنة من الإسمنت المسلح، بارتفاع يفوق الـ3 أمتار، تمّ تحصينها بمراكز مراقبة وأسلاك شائكة وتسليط الإضاءة القوية عليها، لمنع محاولات التسلل.
بعد إنشاء جدار برلين، سارعت ألمانيا الغربية إلى الاتفاق مع تركيا والمغرب لتعويض التراجع المفاجئ في أعداد المهاجرين، بعد انقطاع السبل مع أوروبا الشرقية. وعلى مدار السنوات، طالب زعماء ورؤساء دول بهدم الجدارK وبدأت ملامح انهيار الجدار تظهر تدريجياً، قبل الانهيار الفعلي، ففي آب من عام 1989، أعلنت بلغاريا إعادة فتح حدودها مع النمسا، ليفر ما يزيد عن 13 ألف “سائح” من ألمانيا الشرقية، ويصلون إلى النمسا عبر بلغاريا، بحلول أيلول من العام نفسه.
وتوالت الأحداث في أيلول، وتزايدت فيه المؤشرات على “الانهيار القريب”، إذ انطلقت تظاهرات شعبية حاشدة ضد الحكومة في ألمانيا الشرقية، مما أدى إلى استقالة الرئيس الشرقي إريك هونيكر، ومنح الأمل بإمكانية التخلص من حائط الفصل هذا، خاصة وأن هونيكر كان من أشد المدافعين عنه.
وفي تشرين الثاني 1989، تدفق عشرات الآلاف من الألمان الشرقيين نحو الجدار، ليعبروا الحدود باتجاه برلين الغربية، أمام أعين الحراس ورجال الجمارك. وفي آب 1990، تمّ انتخاب هيلموت كول مستشاراً لألمانيا الموحدة، وإعلان برلين عاصمة لها. بعد ذلك انهار المعسكر الشرقي وأصبحت الكثير من الدول الشيوعية سابقاً أعضاء في الاتحاد الأوروبي بجانب المعسكر الغربي واختلفت طريقة التعامل مع الهجرة الجماعية والكثير من الدول التي كان مواطنوها محبوسين وراء الحواجز أصبحت تبني حواجزها لمنع الناس من دخولها.
بسقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي خسرت الولايات المتحدة الأمريكية العدو الموحد. فالسياسة الأمريكية كانت مختلفة تماماً عندما كان الجدار مرتفعاً والإمبراطورية الشيوعية خلفه. وما من شك أن سقوط الجدار هو الذي أدى إلى تنامي الأحقاد السياسية في الولايات المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي. فالأمريكيون أصبح لديهم الوقت والفرصة المفتوحة للشجار فيما بينهم بعدما زال العدو الخارجي.
ولم يبدأ التحزب في السياسة الأمريكية بسقوط الشيوعية ولكنه بلغ ذروته عندما سقط الجدار، وزال الاتحاد السوفييتي، وشهدت الولايات المتحدة محاولات عدة لعزل الرئيس خلال العقدين الماضيين أكثر مما شهدته خلال القرنين السابقين.
ولابد أن غياب التهديد الخارجي هو الذي جعل الأمريكيين يوجهون سهام السياسة فيما بينهم. والدليل أنه لم يتمكن أي رئيس أمريكي منذ 1988 من الفوز بنحو 400 مجمع انتخابي، ولم يتمكّن أي مرشح ديمقراطي أن يفوز بالأغلبية في الجنوب. كما لم يتمكن أي مرشح جمهوري من اكتساح المناطق الساحلية، ولم تنتخب الولايات المتحدة أي رئيس حقق “إجماعاً وطنياً” منذ الحرب الباردة. كان الاتحاد السوفييتي عدو الولايات المتحدة المفضّل، فهو الذي كان يمنحها الشعور بنفسها، وعندما سقط الجدار سقط معه الشعور بالأمة الأمريكية.