دراساتصحيفة البعث

التصحيح نقطة تحول في تاريخ سورية

إعداد: قسم الدراسات

كانت الحركة التصحيحية التي قام بها القائد المؤسّس حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970 بداية عهد جديد في سورية، فقد وضعتها في مكانة متقدمة ونقلتها نحو التطوير والبناء. كما كان، في ضوء الظروف الناجمة عن العدوان الصهيوني الأمريكي على الأمة العربية في حزيران عام 1967، من أهم أولوياتها أن تعيد النظر بسياساتها كافة، الداخلية والعربية والدولية.

لقد أولت قيادة الحركة التصحيحية أهمية كبيرة للوضع الداخلي لتقوية الجبهة الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية، وشرعت في اتخاذ سلسلة من الإجراءات لتحقيق ذلك، كان من أهمها: تشكيل مجلس الشعب في شباط 1971- إصدار قانون الإدارة المحلية في أيار 1971- استكمال إنشاء المنظمات التربوية الشعبية والمهنية- إقامة الجبهة الوطنية التقدمية في 7 آذار عام 1972-  إقرار الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية بعد أن أقرّه مجلس الشعب في 13/3/1973.

أما على صعيد الوضع العربي، فقد جاءت حرب تشرين التحريرية في 6 تشرين الأول 1973 رداً قوياً على جميع الاعتداءات الصهيونية، لأن الحركة التصحيحية لم تقتصر إنجازاتها على الشعب السوري، بل تركت أثرها على المنطقة ومحيطها الإقليمي بحملها للمشروع القومي العربي، وثبات مواقف سورية تجاه القضية الفلسطينية والحقوق العربية، بالتوازي مع التعامل السياسي الملائم للظروف والمستجدات الطارئة على سورية والدول العربية.

ولعلّ الطابع الوطني القومي التحرري الوحدوي هو أبرز ما ميّز النهج السياسي للحركة التصحيحية. وبالاستناد إلى هذا النهج، كانت قضية التحرير، مع كونها قضية وطنية وقومية، هي الأساس في عملية تصحيح وتطوير علاقات الجمهورية العربية السورية على النطاقين القومي والدولي، ووضع الإستراتيجية القائمة على مفهوم حشد الطاقات العربية والدولية. وفي هذا الإطار بادرت الجمهورية العربية السورية إلى الانفتاح على جميع الدول العربية، وإعادة علاقاتها معها جميعاً، وكان اهتمامها منصبّاً على تصحيح مسار علاقاتها مع الدول العربية وجعله يقوم على التعاون والتقارب وتوحيد الجهود. وعلى هذا الأساس ظلت سياسة سورية العربية في عهد التصحيح تدعو إلى تحقيق أي خطوة وحدوية ممكنة بين الأقطار المؤهلة لذلك، وتؤكد أن ليس لها شروط من أجل تحقيق أي خطوة وحدوية ممكنة، تكون خطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة. كما ظلت سورية تتمسّك بسياسة التضامن العربي، وتدعو إلى تعزيزه وتفعيله، وتؤكد على ضرورة عدم تغليب الخلافات الهامشية والقضايا الثانوية على القضايا الأساسية. وقد أدّت سورية دوراً بارزاً بل طليعياً فيما تحقّق من تضامن وعمل مشترك وتنسيق وحشد للطاقات العربية، وخصوصاً في حرب تشرين التحريرية، وكذلك في العمل من أجل حماية النتائج الإيجابية لهذه الحرب، ومواجهة الآثار السلبية الناجمة عن الحلول المنفردة بدءاً من كامب ديفيد، مروراً بأوسلو، وانتهاء بوادي عربة، هذه الحلول التي ألحقت أفدح الأضرار بالتضامن العربي والعمل العربي المشترك، وقضاياه الأساسية وخصوصاً القضية الفلسطينية وتحرير الأراضي العربية المحتلة، كما شكّلت عقبة كبرى أمام النهوض العربي المنشود، مما حمّل سورية مسؤوليات أكبر في مواجهة التحديات الناشئة، والتي كان منها ما يقوم به الكيان الإسرائيلي من احتلال لأجزاء واسعة من أراضي الدول العربية.

وإزاء هذه التحديات، كان خيار سورية الثابت والمبدئي، هو خيار الصمود والمقاومة ومواصلة الالتزام بالقضية الفلسطينية، وقضية تحرير الأراضي العربية المحتلة، والوقوف بمبدئية وثبات إلى جانب نضال الشعب الفلسطيني، ومقاومته الباسلة، وهي تواصل كفاحها المجيد في سبيل إحقاق حقوقه الوطنية وتقرير مصيره بنفسه، وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس، وحقه في العودة، وكذلك الوقوف بقوة وتصميم إلى جانب لبنان ومنع تقسيمه، وفي سبيل حماية وحدته أرضاً وشعباً.

على مدى عقود ظلّت الحركة التصحيحية تؤكد التزامها قضية الوطن والشعب، كما ظلت تؤكد استجابتها لمتطلبات التجديد والتطوير، في ضوء ما يستجد من متغيرات، إضافة إلى تأكيد الحاجة الدائمة إلى مراجعة سياسة الحزب، وما تحقّق من منجزات ومواصلتها والبناء عليها، وما ظهر من سلبيات ومعالجتها والعمل على تجاوزها. وهذا ما كانت تؤكده وتدعو إليه دوماً كلمات وتوجيهات القائد المؤسّس حافظ الأسد.

وفي المؤتمر القطري السوري التاسع الذي انعقد مابين /17-21/ حزيران 2000، بما حدّده من توجهات أكد السيد الرئيس بشار الأسد على مهمة التجديد والتطوير على قاعدة الاستمرار والاستقرار، مشدداً على ضرورة المعالجة العلمية لقضايا التطور من منطلق الثبات على المبادئ، وتفعيل طاقات المجتمع، في تعدديتها السياسية والحزبية، وتعدديتها الاقتصادية على قاعدة الوحدة الوطنية الراسخة والتمسّك بالثوابت الوطنية والقومية.

وفي خطابه التاريخي الذي وجّهه إلى مجلس الشعب وإلى الشعب لدى أدائه القسم الدستوري في 17/تموز/2000 حدّد السيد الرئيس بشار الأسد أهم التوجهات المستقبلية حول قضايا السياسة الداخلية والعربية والدولية، وشكّلت مسألة التطوير والتحديث السمة البارزة التي ميّزت هذه التوجهات. وفي ضوئها تمّ تحقيق خطوات مهمة على صعيد تفعيل حياة الحزب الداخلية ودوره، وعلى صعيد تفعيل عمل الجبهة الوطنية التقدمية وتمكين أحزابها من فتح مقرات لها، وإصدار صحف خاصة لكل منها، وتعزيز مشاركتها في الحياة العامة، وكذلك تفعيل عمل المنظمات الشعبية والنقابات المهنية وتعزيز ممارستها للديمقراطية، وتوطيد دورها، وتعزيز ممارسة النقد البنّاء، واحترام الرأي الآخر، والممارسة الملتزمة والمسؤولة للحرية والديمقراطية. كما تمّ تطوير الكثير من القوانين وتحديثها في المجالات المختلفة، ولعلّ أهمها موضوع الإصلاح الاقتصادي، ولاسيما ما يتعلق بتطوير القطاع الخاص من خلال سنّ القوانين التي تشجّع على الاستثمار وتحسّن مناخه.

تمثل الحركة التصحیحیة في سوریة نقلة نوعیة في حیاة الحزب ومسیرة نضاله في المجالات كافة وخاصة في المجال الحزبي، وفي تحقیق الاستقرار السیاسي في سوریة، ولاسیّما أن الحزب یضطلع فیها إلى الیوم بقیادة الدولة والمجتمع. إن الحركة التصحیحیة التي قامت في السادس عشر من تشرین الثاني عام 1970 رسّخت حقیقة تؤكد قدرة الحزب على النهوض والتجدّد المستمر وتجاوز الكبوات والصعاب والعوائق المختلفة.

لقد هیّأت الحركة التصحیحیة المجیدة الظروف الملائمة لتعزیز الاستقرار السیاسي في سوریة، بعد مرحلة عانت فیها من التوترات السیاسیة وعدم الاستقرار، وجعلت الحركة التي تمیّزت بالواقعیة الثوریة من الحریة والدیمقراطیة سمتین بارزتین من سمات الحیاة العامة في سورية.