ثقافةصحيفة البعث

“نزار قبّاني”: التحيُّز المجحف في التقديم

تابع الجمهور السوري مؤخرا على إحدى القنوات السورية مسلسل “سيرة ذاتية” عن أديب دمشقي ملأ الدنيا وشغل النّاس، إنسان أصيل نهض متمرّداً على كلّ الأفكار البالية، والتقاليد المورثة الصدئة، عن شاعر كان يميّز بدقّة بين الأغصان الخضراء والأغصان الزّائفة، يذهب إلى اقصى درجات “التحرّر” عندما يتعلق ذلك بمصلحة البلاد، ولكنّه يحرص على الجوهر في تمييز الملمح الأهم للصّراع الّذي يخوضه أبناء أمّته، هذا الشّاعر كان أساطين النغم، ونجوم الغناء يتوقون لتلحين قصيدة له، بل إنّ عصراً جديداً بدأ مع أشعاره، يقول “محمّد عبد الوهّاب”وهو موشك على تلحين “أيظنّ أنّي لعبة بيديه”: “هذه القصيدة تمثّل تطوّراً لجيل عربي جديد، جيل يقرأ الصحف، ويجلس في المقاهي، يحقّ للفتاة فيه أن تترك يدها في يد حبيبها لتنام كالعصفور، ولفستانها أن يرقص على قدميه”، سيّد الملحّنين، وكبير الموسيقيين العرب، كان يدرك أنّ نزار قبّاني ظاهرة شعريّة يجب سريعاً اللحاق بها، وإلّا فاته الزمن، فشاعر دمشق قطع جهيرة كلّ خطيب، وحسم مسألة بسيطة: الشّعر إذا لم يكن سوريّاً فهو ليس بشعر.

المسلسل يكشف بوضوح عن جهود إخراجيّة مهولة، وجميعها مُتقنة، الاعتناء بالأداء، عمليّة اختيار الممثلين، مواقع التصوير، جميعها في أحسن وأكمل حال، هناك جهود صحيح أنّها تُنسب لمصممي الديكور، ولكنها تحدث بالتشاور مع المخرج الّذي استطاع أن يقدّم لنا بأمانة، وحرفيّة بصريّة، الأزمنة، والمواقف، والشخصيات التي عايشها نزار قباني.

الآن وبعد قرابة ال 15 عاما على عرض مسلسل “نزار قبّاني”-قمر الزمان علوش-باسل الخطيب-، يبدو المسلسل تجربة فريدة يتيمة، لم تستفد من ذلك النجاح في تأسيس وترويج والاستفادة من أعمال “السيرة الذاتية”، ربما لأن ناقداً لم ينتبه لأهميّة المسلسل والنوع.

يؤخذ – فقط – على العمل بعض النقاط المتعلقة بالنص، ومنها: أن الكاتب يحكم على نزار من خلال “نصوصه” دون أن يعلم أنّ نزار أديب كبير، كان يقضي جل وقته في القراءة والأبحاث، وليس عنده وقت لمثل الغراميات الرومانسية المفرطة التي قدمها العمل، فالحب في أشعار نزار ليست سوى “أسلوب وتقنية، استعملها كثورة ضمن القصيدة العربية، وليست تلك طريقة حياته، من يعلم شعر نزار، ويتذوّق روعته، لا بدّ أن يكتشف أن شاعراً بهذا المستوى، لم يكن لديه وقت لـ” يحك” وراء أذنه، ولكن الكاتب قد خلط على ما يبدو بين أجواء قصائد نزار، وبين سيرة حياته، وهذه مشكلة كبيرة!إذ قام الكاتب بالتركيز على الجانب”الرومانسي” من شخصيّة شاعرنا، وقام بالتقليل من أهمية جوانب أخرى تفوقها أهمية، مثل: مواقف نزار الوطنية، رأيه بـ”مسرحية اللامعقول” كما يصف اتفاقية غزّة -أريحا، والتي صارت لاحقاً تُعرف باتفاقية أوسلو.

أيضا هناك قصائد وطنية وقومية يلقيها نزار في المسلسل، ولكنّ ذلك أتى على هامش الرومانس المفرط، فالشاعر في العمل المذكور حتّى وهو يلقي الشعر عن الفلسطينيين أو أحوال العرب، فلا بدّ من فتاة أو أكثر تجلس في الصفوف الأولى وتُعجب به، ثمّ تكون محصلة ذلك الموقف مزيداً من الرومانس، وهذا الإفراط في الرومانس، يجيء على حساب تلك المواقف، فتطغى عليها عند المشاهد، ولا تفيها حقها بأمانة تاريخية تشترطها أعمال “السيرة الذاتية”.

الكاتب اختار المتواضع والعادي من شعر نزار، وأهمل الفاخر والبديع منه، فالمسلسل يُهمل “حدّة” نزار ومواقفه الحازمة الّتي تظهر في موقفه من التطبيع، صحيح أن هناك في المسلسل قصائد عن القدس والقضية والهموم الوطنية، ولكنها تأتي عرضيّة، عابرة، على هامش الغراميّات الوفيرة في المسلسل، يُقصي ويستبعد قيمة نزار كمفكّر قومي، ومثقّف وطني. ولمعرفة إلى أي درجة نزار قبّاني كان ملتزماً في مواقفه، يكفي أن نعلم أنّه الوحيد الّذي وقف صارخاً “لا” في وجه الاتفاقية الآنفة الذكر، التي استبدلوا اسمها لأنّ شاعرنا استعمل الاسم في قصيدته العصماء الشّهيرة: “المهرولون”، وهي هجاء مرير ولاذع على جماله الشعري، ل “أوسلو”، ولمن سار في ركبها وأيدها، وما حدث بينه وبين الروائي المصري “نجيب محفوظ” على إثرها، ضجت به وسائل إعلام ذاك الوقت، وطار على ألسنة كل القُرّاء بمختلف مستوياتهم الثقافية.

من لا يعرف نزار، سوف يحب المسلسل، ولكن من يتذوق أدبه، لا بد أن يشعر بظلم كبير طال شاعر الياسمين والجوري ومئذنة العروس، فنزار قبّاني لا يقل قوّة وصلابة عن صخور قاسيون، ولكنّ “تمرده” الشعري كان من أجل هدف، ولم يكن طريقة حياة، يمكن الانتباه لذلك من الاسم الذي يظهر على الغلاف الأخير من دواوينه: “منشورات نزار قباني”، الشاعر الكبير كان ينظر إلى أدبه كمنشورات، تماماً على طريقة الأحزاب السرية، والحركات السياسية، هل يحتمل الغزل كل ذلك؟ بالتأكيد نعم، شاعر “ساحة النجمة” وفنّان “أرض الديار” يقول إن هزيمة حزيران لم تكن إلا هزيمة للجسد العربي المكبوت بالدرجة الأولى، لقد اختار نزار باباً ومدخلاً مختلفاً للتّغيير في المجتمع، ولنهضة البلاد، وهذا ما لم يركز عليه الكاتب، فأفعال البطولة، يجب أن تكون بطولية، لا غرامية بحتة، الغرام حالة تحياها شخصية البطل وليست من مفردات بطولته.

هناك لكل شاعر مستويات، قال البحتري عن أبي تمام: “جيّده أحسن من جيّدي، ورديئي أحسن من رديئه”، كاتب النص اختار الرديء من شعر نزار، والقصائد التي تم اختيارها لتقديم شاعرنا للجمهور، تُمثل وجهة نظر الكاتب، وكيف رأى قامة شعرية باذخة، بحجم “نزار قباني” من خلالها هي لا غيرها.

تمّام علي بركات