ثقافةصحيفة البعث

ابـنـــــــــــة الصبـــــــــح

ربما لم تدر الأقلام على السطور،  فوقها وتحتها وما وراءها أيضا –قصيدة “حرف الهاء” الشهيرة لأنسي الحاج-ويسيل حبرها كخصر الزنابق المائل في سوق الياسمين،  وبغير نوع من أنواع الكتابة،  عن مٌغنية كالسيدة “فيروز”،  في مناسبة عنها أو بغيرها؛ غرة صباحنا،  وروح بُنِ قهوتنا،  عندما نهضت من نومها،  صار للأصباح ألوان سحر فريدة.

كل لون حلم وشرود في عوالم مسحورة،  بالألفة والحنين،  بورق الشجر،  أخضره المتراقص صباحا،  وذاك الغارق بدم وردة الغروب،  بالسواقي والجبال،  بالجوز واللوز، بالشمسية والتنورة الكحلية،  بالجنوب المشغول بالقلوب و”أسوارة” العروس، بالشُباك والسماء،  بالحور والنسيان،  بالأصحاب والناس،  بالصحو،  المطر،  بالشموع،  بالهدير البحر،  بالطهر القداسة،  بالحب،  كما لو أنه محفورة آلاءه على جبينها،  بما لا يتسع له كل مقال وكتاب!

قرابة 13 مليون كلمة في اللغة العربية،  بالتأكيد لم تغنِ “رسولتنا” إلى السماء النقية،  إلا اليسير منها،  لكنها وعلى نحو مذهل،  تكاد جميعا تتزاحم على شفاهها كما العصافير على قمح السهول،  لتطير من على شرفتها الوارفة بذاتها،  إلى الملايين،  الذين صارت صباحاتهم وبكل عفوية ورضا،  يبتكرها صوتها على نحو فريد وعجيب،  فكيف تفعل ذلك تلك الرقيقة الشاحبة كَشُحبة فَرطِ العذوبة؟

قلة من الناس،  لم يكتبوا عنها؛ لم يتبادلوا صوتها كهدايا في الأعياد،  عرّابة قلوب العاشقات الحائرات،  والعُشاق المنتظرون طيلة الليل،  شباك تنفرج ستائره، اليوم ستنغرس قلوب ملايين الأصابع،  فوق أزرار لوحة الكيبورد،  وشاشات “التاتش” ستصير رهيفة تحت أنامل الجميع،  فالجميع سيقول لها: فيروز..كل عام وأنت فيروزتنا.

ولكن لماذا كل هذه الشعبية العربية والمحلية،  التي تتغاوى في العالم كثوب زفاف سماوي لفيروز؟ لماذا تروح القلوب إليها كرواح النحلة للرحيق؟ لماذا “الأبد” صار بما يعنيه من بعض الخلود،  من الصفات التي تنسحب على ما غنته فيروز،  وعليها كامرأة،  تكاد لولا صوتها وما يُضيئه من رحابة،  تبدو شبحاً في أسطورة؟ ما هذا السر الذي يجعلها حبيبة الجميع،  صديقتهم،  بيت سرهم،  لسان حالهم؟

اليوم ومنذ أمس قريب،  يعرف الكثير من الناس العديد من “نجمات” الغناء في الوطن العربي،  قلة منهم بالسمع،  وكثيرهم بالنظر،  في كل يوم هناك “نجمة” حسب وعي الحشود لا الجمهور والفرق كبير بين هذا وذاك؛ معايير النجومية فيهن معروفة،  فأجسادهن شبه العارية،  هي من تغني،  والأبصار الحاسرة هي التي تسمع،  لكن السيدة التي تتعربش على حبالها الصوتية الكروم والينابيع، ليست بحاجة لأن يراها الناس على شاشة ما فيتذكرونها،  لأنها في وجدانهم وافئدتهم، هذا عدا عن كونها في حياتهم اليومية،  يُشرق صوتها عليهم، مع الشمس، من بين حبال الليل؛كثرُ، لا يُحصى لهم عددا، من صار صوتها في جيناتهم محفورا بأزميل الآلهة؛أطفال اليوم كما أطفال البارحة وقبلهم ومن سبقهم، يعرفونها بمهابة شبه مفقودة لفنان،  وحب لا تفسير له، دون أن يروها،  فهم لا يعون ما تشدو، لقدا غفوا على أرجوحة صوتها،  وتحت عناية أُلفته حلموا، يكفي أن يرفرف صوتها صباحا من بعيد، ليحضر الحوار الصغير التالي بين طفلة تهم بالذهاب إلى مدرستها،  وأبيها:

الطفلة بابتسامة: بابا هذه فيروز.

الأب فخورا: شطورة.

فترقص جديلتها الطفلة من الفرح، نالت علامة الرضا في مذاكرة وجدانها، عندما شاهدت ابتسامة أبيها بأن أحسنت يا صغيرتي، تلك التي وصلك صوتها من بعيد،  وربما لم تميزي ماذا تغني، عرفتها من الحَمام الطائر في زرقة صوتها.

كم مرة يجب أن نكتب عنك يا بنت الكروم؟ كم تحتمل الحروف ودقائق المعاني من رهافتك الباذخة الدلال؟ ماذا يُقال فيكِ؟ هل نتكلم عن أصالة وسحر ما قدمت؟ هذه بديهية، أم هل نُحلل طيف صوتك تحت المجهر، لنعاين لطائفه، ونعرف ما الذي يُبحر في صداه؟ لماذا نريد أن نعرف ما هو الذي لا اسم له يُعرف به، أو شكل ولون؟، ذاك الذي يرمي على أكتافنا شالا تحت المطر، ويُنهض سهول قمح أرواحنا في كآبة الخريف؟ فليدم صوتك ما دامت السماء تتمشى بكامل زرقتها فوق أعمدة بعلبك وجبل الشيخ،  فليدم صوتك ما دامت بوابة التاريخ، وليدم ما دام الصبح، يا ابنته.

تمّام علي بركات