أخبارزواياصحيفة البعث

الحرب والحياة (1) الحرب والعملة الوطنية (التمويل بالتضخم)

د. مهدي دخل الله

أراني مدفوعاً لتحليل هذا الموضوع مرة أخرى، والنهج هنا نهج مقارن، وهو النهج الوحيد الذي يوضح حقيقة الأوضاع بعيداً عن المعايير المطلقة التي تستند إلى الرومانسية في التحليل..

ما يصيب العملات الوطنية، الضعيفة والقوية، في الحرب هو هبوط كبير لقدراتها الشرائية في السوق الداخلية من جهة، وتدهور سعر صرفها بالعملات الخارجية من جهة أخرى، وهذا يكاد يكون قانوناً موضوعياً خارج إرادة البشر، وجل ما يمكن للحكومات أن تفعله هو محاولات التخفيف من مستوى هذا التدهور..

تفسير هذا القانون هو أن الحرب تفرض على الدولة مصروفات باهظة، عسكرية وغير عسكرية، إضافة إلى تعطيل مصادر دخلها من الاقتصاد بسبب إغلاق المصانع (وبالتالي تراجع الضرائب)، والضغط باتجاه الاستيراد..

الحل يكون في تمويل حياة الاقتصاد والمتطلبات الحربية بالتضخم، وهو حل لا بديل له في أي حرب شهدها عالمنا المعاصر، والمقارنة بين عدة تجارب تثبت أن العملة السورية هي الأقل تأثراً بالحرب:

1- سورية: إنها أطول حرب وأكثرها تكلفة إذا أخذ بالاعتبار أن سورية بلد صغير، وليس لديه ثروات باطنية كبيرة، كما أن اقتصاده ضعيف بالمقارنة مع الاقتصادات المتوسطة والمتطورة أو مصدّرة النفط..

وهناك عامل آخر يزيد في العبء الذي تتحمّله سورية هو أنها لا تتلقى مساعدات خارجية، ولا تستقرض من بيوت المال العالمية، إضافة إلى أن نسبة التدمير وسرقة المصانع والنفط هي نسبة مرتفعة جداً..

وعلى الرغم من ذلك… وصل هبوط سعر الليرة تجاه العملات الأخرى حوالي (12 إلى 14 ضعفاً)، أي من 50 ل.س للدولار إلى 600 أو 700 ليرة … علماً أنه في خضم الحرب قبل سنوات كان التدهور (8 إلى 10 أضعاف) من 50 ليرة إلى 400 أو 500 ليرة للدولار (وغيره من العملات)…

2- الدول المتطورة:  اضطرت الولايات المتحدة أثناء حرب التحرير 1775- 1783 إلى طبع عملة ورقية دون تغطية اسمها (الكونتننتال)، وكانت عملات ضعيفة القيمة جداً، وأثناء الحرب الأهلية 1861 – 1865 طبّقت الحكومة الأمريكية عملة ورقية ضعيفة القيمة اسمها (greenbacks)، أي خضراء الظهر..

وأثناء حرب فيتنام (1963 – 1971) هبطت القوة الشرائية للدولار أكثر من 14 ضعفاً.. (المعلومات من كتاب جون غالبريت « الماضي صورة الحاضر – في الفصل الثاني» نشر دار المعرفة الكويتية).

أما بريطانيا فقد تدهورت عملتها الجنيه الاسترليني بسبب حرب الفوكلاند عام 1982، وتضاءلت قوته الشرائية بصورة هددت الاقتصاد البريطاني برمته..

ألمانيا أيام الحرب العالمية الثانية شهدت تدهوراً خطيراً في القوة الشرائية لعملتها الوطنية لدرجة أن علبة السجائر مثلاً كان ثمنها أكثر من ألف مارك الماني، أما في الحرب العالمية الأولى، فهناك صورة شهيرة لامرأة عجوز تحرق كميات كبيرة من الماركات (العملة الألمانية) من أجل التدفئة في برد ألمانيا القارص، كان المارك الألماني يساوي أربعة دولارات عام 1913، مع بداية الحرب 1914 أصبح الدولار الواحد يعادل 2 تريليون مارك( التريليون ألف مليار).

الدول النامية:  إذا كان هذا وضع الدول الصناعية الكبرى ذات الاقتصاد القوي، فكيف يكون وضع الدول النامية؟..

لبنان: هبط سعر صرف الليرة اللبنانية أيام الحرب هناك ألف ضعف (من 3 ليرات إلى 3000 ليرة للدولار)، مع العلم أن لبنان يتلقى مساعدات وديوناً خارجية كبيرة.

العراق: هبط سعر صرف الدينار أكثر من 1300 ضعف ( من ثلاثة دينارات للدولار الواحد عام 1971 إلى أربعة آلاف دينار مقابل الدولار)  على الرغم من أن العراق بلد غني بالنفط.

تركيا: هبط سعر صرف الليرة التركية ( من 1.5 ليرة عام 2010 إلى 7 ليرات للدولار الواحد اليوم)، أي خمسة أضعاف تقريباً على الرغم من عدم وجود حرب أو مقاطعة أو سرقة مصانع أو تعطيل الحياة الاقتصادية.

mahdidakhlala@gmail.com