دراساتصحيفة البعث

زيف التاريخ الأمريكي

ترجمة وإعداد: علاء العطار

تكمن صعوبة قبول التصورات الشائعة للتاريخ الأمريكي في أنها مغلوطة في معظم الأحيان، وهذه الحقيقة لا تنطبق على أمريكا وحدها، فمعظم الامبراطوريات تفضل سرد تاريخ متخيّل عوضاً عن تاريخ حافل بحقائق مقلقة (وأحياناً دامية)، فهذه فرنسا تضع رفاة نابليون في سرداب الظافر احتفالاً بثورة نبذ هو نفسه مبادئها المتمثّلة بالحرية والمساواة والإخاء، وهناك من الأمثلة الكثير، ولكن لا متسع لذكرها.

لكن الولايات المتحدة احترفت تزوير التاريخ بشكل لا يقبل مثيلاً، فسرعان ما تحول القصة المتداولة إلى مجد استثنائي، مثلاً عن جيش من مستعمرات وقف في وجه الجيش البريطاني المدرب تدريباً جيداً، أو عن حرب ضد الاستعباد أصبحت بمرور الوقت حرباً لاستقلال الجنوب، أو عن تمجيد التضحية بـ 58.000 أمريكي في تدخل مثير للخلاف تحول في أقل من عقد إلى “قضية نبيلة”، لذا ليس من المستغرب أبداً أن تكون الحقيقة أكثر تشويقاً من الأسطورة، فجيش المستعمرات لم يكن أسوأ كساء، وأقل أجوراً، ومخذولاً فحسب، بل إن أسطع أيامه كانت ضد مرتزقة ألمان، وليس ضد الجيش البريطاني النظامي، وشنت حرب استقلال الجنوب للقضاء على “آفة عرقية”، في حين كانت “القضية النبيلة” لحرب فيتنام ضد جيش على حافة الانهيار، ويضم وحدات عسكرية تتجنب القتال أو ترفضه.

كما أن لاستبدال الحقيقة بالخرافة استخداماته، وهو أمر برع به الجنرال جورج باتون، فرغم أنه كان طالباً لامبالياً، إلا أنه كان قارئاً نهماً ذا ذاكرة استثنائية، وإحساس دقيق بالتاريخ، الأمر الذي جعل خطابه الذي ألقاه في 5 حزيران عام 1944 أمام الجيش الأمريكي أكثر من رائع، لأنه يمجّد تاريخاً مزوراً يتمناه كل بلد، إذ قال: “أيها الرجال، هذه الأقاويل التي تتناقلها بعض المصادر عن أن أمريكا تروم الخروج من هذه الحرب ولا ترغب في مواصلة القتال، ما هي إلا هراء، فنحن الأمريكيين نعشق القتال، وكل الأمريكيين يعشقون قعقعة الحرب وصليلها”.

ويتابع باتون: “الأمريكيون يحبون الظافر، ولن يتسامحوا مع الخاسر، الأمريكيون يسعون للفوز على الدوام، ولن أكترث مطلقاً بشخص خسر وضحك، لذلك لم يخسر الأمريكيون حرباً، ولن يخسروا أبداً، لأن فكرة الخسارة بغيضة في نظر أمريكا”.

طبعاً، قليل جداً مما قاله حقيقي، لكن الأهم أن نسأل: ألم يخسر الأمريكيون حرباً؟ لا يتطلب الأمر مؤرخاً متمرساً ليؤكد أن الجيش الأمريكي خسر في حرب عام 1812 أمام الجيش البريطاني، وكان أداؤه رهيباً في الحروب الأمريكية الهندية في أواخر القرن التاسع عشر، وأساء التعامل مع التمرد الفليبيني عام 1899 الذي وصف خلاله مارك توين الجنود الأمريكيين بـ “القتلة الذين يرتدون الزي العسكري”، وبذلك استطاع باتون في خطابه خلق نسخة مزيفة عن الحقيقة تم اعتمادها كجزء من التاريخ الوطني للبلاد.

لا يعني كل ما ذكر أن التاريخ يعيد نفسه بالضرورة، لكن المؤكد أن التاريخ تعاد كتابته، ويعاد النظر به، وهذا الأمر ينطبق على حرب العراق، فقد أثارت الدراسة الموسعة التي أجرتها كلية الحرب العسكرية الأمريكية عن حرب العراق عام 2003 جدلاً بين الرتب العليا في الجيش الأمريكي، وأكدت أن القادة الأمريكيين لم يفهموا البلد الذي قاموا باحتلاله، ووضعوا افتراضات عن عدو ثبت أنها خاطئة، ولم يكن لديهم عدد كاف من القوات للفوز بالقتال، إلى جانب أمور عدة لا يتسع ذكرها.

أسكتت هذه الدراسة كل صوت حاول الإشادة بهذه الحرب، فكما في حرب فيتنام حيث كان الأوغاد هم الكونغرس الأمريكي، والحركة المناهضة للحرب، كان الأوغاد في العراق هم: جورج دبليو بوش، والجنود الأمريكيون، وباراك أوباما.

ولكن دخلت إلى الميدان دراسة أقصر كتبها فريق مؤلف من تسعة خبراء وباحثين في مؤسسة “راند”، وخلصت إلى أن معركة بغداد، وإفادات ضباط الجيش الأمريكي يمنحاننا ما لم تستطع كلية الحرب العسكرية منحه، وهو سرد دقيق وصريح للأخطاء التي ارتكبت، وأسبابها، ودون معان إضافية مغرضة شبيهة بتلك التي جاءت في دراسة كلية الحرب العسكرية الموسعة، لا يجب أن يثير ذلك حالة من الاستغراب، إذ إن اثنين من مؤلفي الدراسة هم من كبار المفكرين في الجيش الأمريكي، وهما العقيدان المتقاعدان ديفيد جونسون، وجيان جنتل، يعرف عن جنتل أنه ناقد ماهر في قول ما يقصده، ويعرف جونسون بأسئلته اللاذعة المخالفة للمنطق.

كان لهذه الدراسة أثر أكبر من سابقتها، فمعركة بغداد وإفادات ضباط الجيش الأمريكي لم يكونا مجرد صفحات تقلبها ما لم تكن بالطبع ضابطاً في الجيش الأمريكي، بل إنها تحدد بالتفصيل الممل الدروس التي يجب على الأمريكيين أن يتعلموها، زيف تاريخهم.

تقبع وسط هذا العرض حقيقة ثابتة لا تتغير عن الحرب، وهي أن الخلل في المستويات العليا في الجيش الأمريكي بعد سقوط بغداد يعكس شقة الخلاف المدني- العسكري في واشنطن، ومحصلة هذا الخلل هي أن المعركة الأولية لاحتلال بغداد كانت ببساطة مقدمة لمعركة دائمة لاحتلال بغداد، أي أن الحرب بمجرد أن انتهت، استمرت بكل بساطة.

إن الأرواح التي يزهقها الجيش الأمريكي سعياً لتحقيق مطامعه ليست خطأ يغتفر، ومعركة بغداد ليست أول من يكشف زيف التاريخ الأمريكي، وليست أول من يكشف سوء التخطيط في الجيش الأمريكي، فهو لم يتوقع أن تكون معركة بغداد بتلك الصعوبة، ولم يتوقع أن يتمرد عليه الجيش العراقي، لكنه بالتأكيد لم يكترث بالمآسي التي خلقها في العراق، وغيره من البلدان.