ثقافةصحيفة البعث

رياض الصالح الحسين.. “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”

“عندما تكونين حزينة/يحزن معك النهر والزورق/أشجار الصفصاف والدوري الرمادي الجبل ومصباح الغرفة/حتى ذئاب البراري المتوحشة/حتى الذئاب/تدفن رؤوسها في الرمال وتبكي”

رحل الشاعر رياض الصالح الحسين عام 1982، وبمناسبة الذكرى السنوية لرحيله وإحياء لذكراه أقام فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب ندوة بعنوان :”رياض صالح الحسين.. بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”.

قصيدة الذات

كان الشاعر رياض الصالح الحسين بارعاً جداً في عناوين مجموعاته ونصوصه والقصيرة منها بشكل خاص، وفي قراءته قال نزار بني المرجة: تمتلك عناوين المجموعة قدرة مذهلة لتبقى مخلصة في ذاكرة كل من يقرأها بتأنٍ وحتى لدى من مر بها مروراً سريعاً وعابراً منها “أساطير يومية”، و”بسيط كالماء… واضح كطلقة مسدس” و”وعل في الغابة”. ولعل العنوان الأكثر ألماً بين عناوين مجموعاته والذي يترك أثراً عميقاً في النفس “خراب الدورة الدموية” لأنه يصف المرض المزمن الذي أدى إلى وفاته وهو مرض القصور والفشل الكلوي، واللافت في قصائده أنها أشبه ما تكون في مجموعها أو في الأغلب منها بسيرة ذاتية شعرية مكتوبة بصوت “الأنا” تارة وبصوت “الآخر” تارة أخرى والشواهد والنماذج التي تبرهن على هذه الحقيقة ماثلة في كل مايمكن أن يختاره الناقد، أو يلفت نظر القارئ.

برع رياض في كتابة ما اصطلح على تسميته بـ”قصيدة التفاصيل اليومية” وهي ذاتها تفاصيل حياته القصيرة المرّة في معظمها، والحلوة في القليل منها بلغةٍ في غاية البساطة والوضوح تؤهلها لأن تكون مدرسة مبتكرة يمكن تسميتها مدرسة السهل جداً الممتنع جداً والقابل للانتشار جداً، فهو حتى عندما يكتب عن معاناته الذاتية يتقمّص الآخر، وتكون الحالة قابلة للتماهي مع التلقي أيضاً لأن يتقمص شخص الشاعر ويشاطره اللحظة المعاشة ذاتها، وتلك هي كما أرى ما ميّز تجربة الشاعر رياض الصالح ومدرسته المدهشة في كتابة قصيدة النثر العربية والتي طوّبته ليكون وبجدارة واحداً من أبرز روادها، تتميز قصيدته بأنها قابلة للترجمة للغات الأخرى دون تشويه.

حضور النقد

يكتب الحسين بفورية وعفوية يقول الكلمة كما هي دون تزويق أو إضافات، وبدوره قال عماد فياض: لغته بسيطة بساطة الأشياء، هي قصيدة الحياة التي تذكرنا بمناخات محمد الماغوط حتى أنه أثار انتباه محمد جمال باروت الذي سجل اسمه في كتابه “الشعر يكتب اسمه”، ووضعه إلى جانب شعراء السبعينيات. وتكمن مشكلة رياض الصالح الحسين أنها كانت وماتزال إلى اليوم أنه لم يتم تناوله بالنقد بحيث يضعه في مكانته اللائقة، وبدلاً من ذلك، نجد ادعاءات بتبني رياض الصالح الحسين في بداياته والوقوف إلى جانبه في وقت انفض فيه الجميع من حوله.

محطات

وتحت عنوان “الإبداع في الزاوية الأشد ضيقاً من الحياة” قال علي الراعي: رحل الشاعر رياض الصالح الحسين شاباً في الثامنة والعشرين من عمره، وفي حياته ثلاث محطات، الأولى عندما رأى الشاعر النور في درعا جنوب سورية لأب من أهالي بلدة مارع شمال حلب كان متطوعاً في الجيش العربي السوري، ثم انتقل مع أسرته إلى دمشق، وعاش في دمر البلد حيث نال من مدرستها شهادة التعليم الابتدائي، وتأثر بجمال طبيعتها الساحرة التي انعكست بعض عناصرها في قصائده الأولى، وفي هذه الفترة بدأ يعاني من القصور الكلوي، فأجريت له عملية جراحية فقد إثرها السمع، مما اضطره لترك المدرسة ليعيش سنوات من الارتباك والحذر والعزلة لصعوبة التواصل مع الآخرين ولأن نطقه أصبح ثقيلاً، ولم يخفف من حالته النفسية القاسية تلك سوى القراءة. والمحطة الثانية عندما بلغ رياض العشرين، استطاع تثقيف نفسه بنفسه، وصار يرتاد الملتقيات الأدبية والشعرية ومهرجانات المسرح والسينما وبدأ بنشر قصائده، حيث كان يتواصل مع أصدقائه بالقلم والورقة، وانحاز إلى كتابة قصيدة النثر في تلك الأيام. كتب رياض في هذه المرحلة ديوانه الأول “خراب الدورة الدموية” عام1979، إضافة لكتابة الكثير من المقالات والزوايا والحوارات الصحفية مع شعراء غيره، وفي المحطة الثالثة انتقل رياض إلى دمشق وأصدر ديوانين شعريين “أساطير يومية”، و”بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”، وكان قبل رحيله قد انتهى من إعداد ديوانه الرابع “وعل في الغابة”. ورغم بعد مسافة رحيل الشاعر رياض الحسين (1954-1982) نسأل عن السر الكامن في الاهتمام به واتساع دائرة قراءه على امتداد المشهد الثقافي العربي؟ هل يكمن في رحيله المبكر الذي صدم محبيه أو قراءته للشفاه بدلاً من الاستماع إليها أو في موهبته وصوته الشعري الخاص المتفرد صياغة وتعبيراً ودلالة وتماساً جوهرياً مع الإنسان ومعاناته وقضايا عصره ومجتمعه، أو من باب الوفاء والشعور بالتقصير تجاه المبدعين لا أكثر ولا أقل، أم تعبيراً عن الفراغ الذي تركه والخواء الذي يعيشه المشهد الشعري والاكتشاف المتأخر لفرادة صوته ومشروعه الفني الذي تبلور في قصيدة النثر؟

مع أسرته

وتحدث أكرم الحسين شقيق الشاعر أن شغفه بدأ يظهر في القراءة، وكانت محاولاته الشعرية قد بدأت في الظهور رغم كل العقبات التي تواجهه، ومع الوضع المادي الصعب بالنسبة لوالدي، كان على رياض أن يعمل ليستطيع إعالة نفسه وفي الحقيقة كثيراً ما كان يعود إلى البيت مشياً ليوفر ثمن تذكرة الركوب ليشتري كتاباً أو جريدة،  ورغم كل تلك المشاكل لم يكن رياض متشائماً بل كان كثير الفرح وكانت إحداها والدي الذي لم يؤمن بما يفعله.

كان لطيفاً جداً معنا نحن إخوته الصغار، وفي مرة أتى ومعه خبز ووضعه أمام والدي قائلاً: هذا الخبز اشتريته من المكافأة التي حصلت عليها لقاء بعض قصائدي التي نشرت في عدة صحف، وعندما توفي رأيت دمعة والدي للمرة الأولى كان يخفيها عن الجميع متظاهراً بالقوة والصلابة كعادته.

جمان بركات