ثقافةصحيفة البعث

الصفحة غير موجودة

 

كان يراسل جريدة محلية تعنى بالثقافة كلما مان على الوقت بساعة أو ساعتين لنفسه، وكأنه يطلب الأذن منه بجزء بسيط من حقه في الحياة. لقد كانت الكتابة بالنسبة له حاجة ملحّة لم يعد يشبعها في الآونة الأخيرة مثلها مثل الكثير من الحاجات العضوية والنفسية التي أصبح بالكاد قادر على إسكاتها في خضم الظروف التي تمر به وبغيره من رفاق هذه البلاد. إنه الجوع مرة أخرى وبأشكال لا تشبه الرغيف.
لم يكن يمسك القلم ليكتب، بل في كل المرات كانت الأفكار تحاصره وتضغط عليه لتخرج بولادة قد تكون عسرة في بعض الأحيان، لكنه لم يعد يكتب عن الحب إلا نادرا و في حالات خاصة مثلا عندما يصطدم بحدث سعيد على غير العادة. كان يعتقد أن الحب هو الضيف الذي أصبح يزورنا بالمناسبات فقط بعد أن كان له صدر البيت.
بشكل عام لم يعد أي ضيف مرغوب به هذه الأيام بعد أن احتل ضيوف ثقلاء بيوت المساكين، دون استئذان أو رحمة، الفقر والظلام مثلا. ولا عجب أن يطردونهم من بيوتهم في يوم ما ويحتلونها بحجة أنهم مستأجرون قدماء.
وإذا أراد أن يكتب عن الحقوق والواجبات فإن أفكارا كثيرة تهاجمه فجأة ويسحبه الخيال من يده إلى مشاهد لا يرغب برؤيتها، تطنّ أذناه ويسمع أصواتا مفزعة ونداءات استجداء وإغاثة وتبدأ سفينته بالغرق شيئا فشيئا. وبأعجوبة يهز رأسه بحركة سريعة كي ينجو بنفسه قبل أن يتلبّس قضية أكبر من مقاسه الهزيل.
أما بالنسبة للتاريخ، فقد وصل إلى قناعة بأن نصفه مزيف ونصفه الآخر نقل عن لسان المجانين، حتى حكايات الأجداد ما كانت إلا حبوبا مساعدة على النوم في ليالي الشتاء الطويلة التي لم تدخلها الكهرباء أو أي شكل من أشكال التسلية الإلكترونية. في الحقيقة هناك أشياء أخرى زينت ليالي الأجداد، وعلى أساسها طردنا من أرحام أمهاتنا دون التأمين على مستقبلنا القادم.
إذن عن ماذا سيكتب! والأخبار تنتقل بسرعة الضوء عبر الفضاء الأزرق، لم يعد أحد يحتاج إلى أخباره المتعبة وقصصه التي هرب الأبطال منها قبل أن يتورطوا في البقاء بين صفحات وطنية تعيسة، صحيح أن الغربة كربة كما يقال لكنهم فضلوا اللحاق بحياة بعيدة عن كل ما يحدث. هذا حقهم وليفعلوا ما يشاء القدر.
تذكر أنه محتفظ بنص قديم من أيام الجامعة، الله على الجامعة وما حملته من أشياء مفقودة الآن، ألا ليتها تعود كي يصدق الجيل الجديد أننا كنا على قيد الحياة يوما ومعترف بنا حسب السجلات الإنسانية.
بحث بين المصنفات المستريحة على رف خشبي، لقد وجد الكثير من الذكريات التي لا وقت لها حاليا ولا مستقبلا، قلب الأوراق رأسا على عقب، لكن للأسف لا أثر لذاك النص، أيعقل أنه مزقه في نوبة هيستيريه من تلك التي تصيبه في الشهر مرة على الأقل؟ كل الاحتمالات واردة والخيبات لا مجال لذكرها، يبدو أن الصفحة غير موجودة بالفعل فلا عتب، أوراق الدفتر أغلبها ممزق وما تبقى منها مبلل بالماء الذي ينقط من سقف بيته من مطر الليلة السابقة.

ندى محمود القيم