ثقافةصحيفة البعث

حكايات باقية على مرّ الزمان

 

يعود تأليف الحكايات إلى ما بعد عصر هارون الرشيد، وما يثبت ولادة ألف ليلة وليلة بعد العصر العباسي الرابع سيطرة اسمي بغداد والبصرة على معظم مواقف الكتاب. ونجد في ثنايا الكتاب جذوراً (هندية – فارسية – يونانية – عراقية – مصرية – شامية) بالإضافة إلى الديانتين المسيحية واليهودية، لكن بعض الدارسين يعتقد أنّ ألف ليلة وليلة لم يؤلفها كاتب واحد، وفي كل زمن كانت تضاف إليها حكاية من هنا وطرفة من هناك، وخبر من هنالك إلى أن اكتملت حكاياتها، ومجمل القول: إنّ المؤلف واسع الخيال، قوي الذاكرة، دقيق الملاحظة، كثير الأسفار، خبير بتقاليد الشعوب، بصير بنوازع النفس البشرية، والمؤلف يعي حكايات لها أصول في تراث الشعوب القديمة، فيكثر من الحديث عن: بحار الأهوال، والعفاريت، والطلاسم، والسحر، والقدر… الخ، ويسيطر على الكتاب المأكل والمشرب، والملبس، والمسكن، والمتع الجنسية ثم الغرابة والمفاجأة والصدفة.
يجنح أسلوب الكاتب إلى البساطة والوضوح، وأحياناً إلى الركاكة والعامية، ويكثر من ترديد بعض الحكايات والحوادث والصور والعبارات، ولا تخلو بعض الحكايات من التفكك والسذاجة، وضعف النسج، وقد شاعت في ثناياها مقاربات من أقاصيص الشعوب وملامحها.
وبعض الحكايات يستمر بكثرة الليالي، وبعضها يقتصر على ليلة واحدة، وتكون عدّة حكايات في ليلة واحدة، من الحكايات الطويلة “حسن البصري” وحكاية “النعمان بن المنذر”، وحكاية “ذات الدواهي”.
ويمكن تقسيم الحكايات إلى حكايات عن الإنسان، وحكايات عن الحيوان، والحكايات المختلطة، ولكن الحكايات لا تكون صافية، فقد تبدأ بالإنسان، وفي استمرارها تدفع إلى مجرى الحكاية أحياء أخرى، طبيعية وغير طبيعية، والحكايات الخاصة بالإنسان وأفعاله هي تلك التي كتبت متأخرة، أمّا الحكايات الخاصة بالحيوان والجن فهي من ابتداع خيال من كتبها، وهي من ذلك النوع الذي يقربها من الحكاية الخرافية، وهذه الحكايات هي الأقدم، تليها الحكايات المختلطة ثم حكايات الإنسان، كما احتوت حكايات ألف ليلة وليلة على القصّ (الراوي، المتكلم، المخاطب)، وكانت كلها تسير تحت غطاء ضمير الراوي “شهرزاد”. والأحداث تتوالد من بعضها، ويُحدث توالدها امتداداً، فتخلف شخوصاً وأوضاعاً جديدة، هذا التوالد الحي ألغى بشكل أو بآخر مركزية البطل، كما ألغى وقوف مجرى التاريخ عند حدث معين، بل كان ينساق وراء الانسياب العام للتاريخ، ويستوعب حركته ونموه واتساعه، ففي البداية كانت محدودة الفعل، ثم توسعت لتشمل ممالك وأمصار، قديمة وحديثة، في الواقع والخيال.
والحكاية تعتمد الوحدة العضوية بين الزمان والمكان، إلا أنّ المكان فيها دائماً يكون أكثر كثافة، وأقل محدودية، وهذا يعكس الوعي الذي كان عليه القاص الشعبي آنذاك، أي محدودية المعرفة بالعالم الطبيعي الذي يحيط به، وعندما كان يريد توسيعه، بحسب ما تتطلبه الحكاية، جعل ذلك من جزر الجان، وفي العالم السفلي تحت الأرض، وفي البحار المجهولة والمجاهل غير المعروفة، وابتكر لكلّ ذلك أسماء، أمّا الزمن الخاص بالحكاية فكان زمناً متعدداً، يطوي الليل والنهار، الفصول والسنوات، وقلما تتأثر عواطف الشخصيات بتغيرات الزمن، وإنّ حدث وتغيرت فتتطلب من القاص مسعى لأن يوصل ما انقطع بالعودة ثانية إلى المغامرة.
تطالعنا شخصية العجوز في ألف ليلة وليلة، وهي أحد الأبطال الرئيسين فيها، فمرّة تتقمص الزهد، ومرّة السحر والاحتيال، وقيادة العشاق إلى معشوقاتهن، أو العاشقات إلى عشاقهن، وظاهرة العجوز هي تجسيد لمعاناة الجواري والحرائر على حدٍ سواء بكلّ جوانبها المضطربة، ممّا جعل سلوكها امتداداً للذات المحرومة فراحت تخطط لتحقيق آمال تعينها على سحق الحرمان بسلوك كان يعتبره المجتمع السائد مقبولاً، بالإضافة إلى خضوعه للوقائع اليومية من ممارسات الحياة.
تتداخل العصور ببعضها ضمن الحكاية الواحدة، بالإضافة إلى القدرة الفنية والبراعة التي يمارسها الحكواتي في الجمع بين عدة مجتمعات تختلف في نشأتها، وتتضارب في المكان وتتباعد في الزمن، فها هي بغداد إلى جانب الصين، وها هي جزر واق الواق إلى جانب بحر الروم، وها هي مدن الفرنجة إلى جانب بلاد فارس، وها هي صور هارون الرشيد إلى جانب صور كسرى أنو شروان، وها هم حكماء الهند إلى جانب النظام وأبي حنيفة، وها هم الملوك والوزراء يقفون إلى جانب ملوك الجان وملوك القردة، وها هم الزهاد والفلاسفة إلى جانب المجوس والكفرة.
ويتكرر في الليالي ظاهرة الجواري البارعات في العلوم والمعرفة وهنّ يناظرن في الشعر والغناء وغيره، وهذه حكاية جارية تعشق فقيراً معدماً، فاجتهدت عن طريق معرفتها العلمية للعودة إلى المحبوب، فأفحمت بمنطقها وسعة معرفتها العلماء، وأظهرتهم أمام الخليفة بمظهر الجهلاء.
إنّ عصر ألف ليلة وليلة هو عصر الأشباح والتخاريف إلى جانب كونه عصر رحلات وترف، يقابله بؤس وكبرياء، وهذا ما يدفع إلى الاستعانة بالصور والأحلام، ويؤدي إلى عناية كبرى بالطلاسم والألغاز، وبقيت شهرزاد تحكي لمدّة ثلاث سنوات، ونجحت كزوجة وحبيبة وأمّ، ومخلّصة بنات جنسها من موت متدرج، وكانت من الذكاء بحيث اعتمدت على عامل الزمن وأنست شهريار حقده على بنات جنسها، وأعادت إلى نفسه الحبّ والثقة.
لقد تأثر بحكايات ألف ليلة وليلة كثيرون من أدب الغرب وفنانيه، وظهرت الاقتباسات منها في القصص والمسرحيات والأفلام والشعر والمعارض اللاهية وريشات الرسامين وتهاويل الراقصين وحكايات الأطفال، وأصبحت الليالي عنواناً على الشرق وأطيافه، خيالاً وعذوبةً وسحراً، إلى مظاهر للترف والأزمات والفواجع والمباهج، جميعها ذات منازع إنسانية في الصميم من مضامير الكائن البشري، أضف إلى هؤلاء ما تمادى منه الأدباء والفنانون العرب والشرقيون، إنّها أدب الحياة الصادق، تعرض صوراً لقلب الإنسان وأحلامه ونوازعه.
فيصل خرتش