دراساتصحيفة البعث

استخدام تركيا الفوسفور الأبيض.. أدلة وشهود

د. معن منيف سليمان

يعدّ استخدام القوّات التركية قنابل الفوسفور الأبيض الحارقة والمحظورة دولياً جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي لاستهدافها المدنيين عمداً، وقد رصدت عدسات مصوري الإعلام فظائع جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الاحتلال التركي في شمال سورية. ونشرت صحف بريطانية أدلّة تدين النظام التركي، وتثبت استخدام قوّاته قنابل فوسفورية حارقة محظورة دولياً، وتمّ تدعيم التحقيق بشهادات من الضحايا وذويهم في مواقع القصف، إضافة إلى آراء بعض الأطباء والخبراء ونتائج التحاليل للعيّنات. ومع نفي وتواطؤ المنظمات الدولية المعنية مع المسؤول عن ارتكاب الجريمة البشعة والمأساة الإنسانية هناك، سيؤدّي ذلك إلى مزيد من الانتهاكات للقانون الدولي، وإلى استخدام هذه الأسلحة في النزاعات القادمة دون حساب للعواقب.
كشفت آثار إصابات المواطنين في شمال سورية أن النظام التركي يستخدم الفوسفور الأبيض ضمن أسلحته التي أصابت بعض المدنيين أيضاً، وفق تقرير نشرته صحيفة “التايمز” البريطانية، ونقلت الصحيفة عن الطبيب “عباس منصور” الذي يعمل في مستشفى الحسكة قوله إن “أنماط الحروق على المصابين السوريين تشير إلى استخدام الفوسفور الأبيض”. وكإحدى الحالات التي تمّ تقديمها كإصابة غامضة، هي حالة الطفل محمد حميد /13/ عاماً، الذي أُصيب بحروق كبيرة في نصف جسده في أثناء هجوم الجيش التركي والفصائل التابعة له على بلدة رأس العين السورية في شهر تشرين الأوّل الفائت، وتمّ نقله على إثرها إلى فرنسا لتلقي العلاج هناك.
وعزّز “هاميش دي بريتون جوردون”، الخبير بالأسلحة الكيماوية وهو عسكري بريطاني سابق ما جاء به الطبيب، وقال: “إن جروحاً شاهدها على أحد المصابين من المرجّح أنها ناجمة عن الفوسفور الأبيض الذي يتفاعل مع الرطوبة في الجلد”. وكان النائب البريطاني “كريسبان بلانت” صرّح: “إن هناك أدلّة واضحة لا لبس فيها على أن الفوسفور الأبيض تمّ استخدامه كسلاح ضدّ المدنيين”.
ووجّه محقّقون دوليون اتهامات لتركيا بضلوعها في تنفيذ هجمات باستخدام الفوسفور الأبيض المحظور دوليّاً. وطالبت مجموعة من أعضاء الكونغرس الأمريكي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بإجابات حول دور تركيا في الاستخدام المبلّغ عنه للذخائر المحمّلة بالفوسفور الأبيض ضدّ المدنيين في شمال شرق سورية. وقال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية: “إن الولايات المتحدة تدرك المزاعم بأن الوكلاء الأتراك استخدموا الفوسفور الأبيض والأدلّة المحتملة التي تدعم هذا الادعاء”. وتابع المسؤول: “تركيا ستكون مسؤولة أمام المجتمع الدولي عن الجرائم التي يرتكبونها ضدّ المدنيين”.
واتهمت منظمة العفو الدولية القوّات التركية والفصائل السورية الموالية لها بارتكاب “جرائم حرب”، وذكرت المنظمة في تقرير أن القوات التركية وتحالف المجموعات المسلّحة المدعومة من قبلها أظهرت تجاهلاً مخزياً لحياة المدنيين، عبر انتهاكات جدية وجرائم حرب بينها عمليات قتل بإجراءات موجزة وهجمات أسفرت عن مقتل وإصابة مدنيين. وأكدت المنظّمة أن “المعلومات التي جرى جمعها توفّر أدلّة دامغة بشأن هجمات دون تمييز على المناطق السكنية، بينها منزل وفرن ومدرسة”.
هذا وقد أعلنت “منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية”، في خضم توالي ظهور مجموعة متزايدة من الأدلّة التي تشير إلى أن تركيا تستخدم بالفعل الفوسفور الأبيض لتمهيد الطريق لغزوها لشمال سورية، عن بدء تحقيقات من جانب خبراء الأسلحة الكيميائية التابعة لها، وبأنها تتابع الوضع وتقوم بجمع المعلومات فيما يتعلّق بالاستخدام المحتمل للأسلحة الكيميائية، ولكن فجأة أعلنت المنظمة الأممية رفضها فحص العينات من بعض المدنيين الذين قيل إنهم تعرّضوا لهجمات بمادة كيميائية محظور دولياً استخدامها في العمليات القتالية، وذلك بدعوى أن هذه الحالات تخرج عن إطار صلاحياتها. وأكّدت المنظمة أن تلك الإصابات جاءت بسبب خصائص الفوسفور الحرارية وليست الكيميائية، قائلة إن حالات استخدام هذه المادة لإقامة ستار دخان أو لغرض الإضاءة أو كأسلحة حارقة تعدّ خارج نطاق معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية.
إن رفض التحقيق في هذه الجريمة أمر يثير القلق، وهو مجرّد ذريعة مخادعة لأنه على الرغم من أن الفوسفور الأبيض مكوّن رئيسي في قذائف الدخان في معظم جيوش حلف شمال الأطلسي (الناتو) فإن استخدامه محكوم بميثاق جنيف للأسلحة الكيميائية الذي يسمح باستخدامه في القنابل اليدوية والذخيرة، ولكن يحظر استخدامه بصورة مباشرة كمادة حارقة، تؤدي إلى إلحاق حروق مباشرة ضدّ البشر.
ونقلت صحيفة “التايمز” البريطانية عن خبراء رفضوا الكشف عن أسمائهم قولهم إن رفض منظمة حظر الكيميائي لفحص العينات جاء في ضوء معارضة حلف (الناتو) لهذه الخطوة، وخاصّة أنه يأمل في إعادة بناء الثقة بين “أردوغان وترامب” في قمّة الحلف في لندن، والحلف ليس مهتماً الآن بإلقاء مزيد من اللوم على أنقرة بشأن حملتها الأخيرة في شمال شرق سورية. هذا إضافة إلى أن المنظمة الدولية ترغب في عدم إحراج دولة حليفة وعضو في حلف شمال الأطلسي في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات مع تركيا توتراً.
ومن جهة أخرى، أنكرت تركيا أن جيشها يمتلك أيّة أسلحة كيميائية محظورة، ولكن صحيفة “التايمز” البريطانية كشفت أن لا صحة لنفي تركيا امتلاكها للفوسفور الأبيض، مؤكّدة أنَّ بريطانيا باعت منتجات عسكرية إلى تركيا تحتوي على الفوسفور الأبيض، وبلغت هذه المنتجات أكثر من 70 رخصة تصديريةً. وأكدت الصحيفة أن بريطانيا علّقت الآن مبيعات الأسلحة لتركيا وخصوصاً التي تمّ استخدامها في غزوها للمناطق شمال شرق سورية.
إذا استمرّ الغرب في تحيّزه وغضّ الطرف عن استخدام تركيا لمواد محظورة ضدّ المدنيين، فإن ذلك سيتسبّب حتماً بالمزيد من الانتهاكات للقانون الدولي، وقد يؤدّي ذلك إلى استخدام هذه الأسلحة في حروب قادمة بين الأطراف المتنازعة دون أي حساب للعواقب.