الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

جملة ومفرق!؟

د. نهلة عيسى
دخلت بثقة إلى “السوبر ماركت” الذي يضع لافتة ضخمة تغطي معظم واجهته الزجاجية تشير إلى أن “المفرق بسعر الجملة”, وبدأت تجوالي لجمع احتياجاتي الغذائية الأسبوعية, وكلما مددت يدي إلى سلعة صعقني سعرها الذي زاد خلال أسبوع, الثلث على الأقل! وعندما توجهت بالسؤال لصاحب المحل: ما الذي يحدث, هذا جنون؟ رفع كتفيه أنه لا يعرف, ثم رد بحزن الخاسر: البيع قليل, والناس تسأل عن الأسعار ثم تغادر كابية الملامح, خاوية اليدين, كما ترين.
دفعني كلامه لمراقبة حركة الناس في المكان, وهالني بداية منظر العجز المرتسم على الوجوه, ثم أبكتني اعتزازاً, السخرية التي يبديها الكثيرون منهم على واقع الحال, وكأن الأمر مجرد عارض, أو ربما دائم لم يعد يخيف, وذكرني ذلك برسالة وصلتني منذ يومين على الفيسبوك من صديق افتراضي, بخصوص كتاباتي الساخرة حول ما يجري لنا وحولنا, واتهمني في الرسالة بالتعالي على أوجاع الناس! وكان ردي على كلامه الموجع, الضحك الذي هو بديل عن البكاء, وهو ضحك على الحال وليس موجهاً له, وقلت له: السخرية ليست تعالياً على وجع الناس, بل تعالياً على الوجع ووعياً بأسبابه التي لن يصلح البكاء والنعي حاله, وقد ضايق الصديق – على ما يبدو- ضحكي المر, فأجابني: أنه يود لفت انتباهي إلى أن سخريتي, أمر يدينني ويسيء إليّ باعتباري أيضاً واحدة ممن يعملن في الشأن العام, وأنني بتصرفي هذا أقلل من أهمية وخطورة ما يحدث!؟.
أقول لكم الحق: لقد ذُهلت مما قاله, وذلك لأسباب عديدة, أولها: أننا ونحن في العام التاسع من احتراقنا, بعضنا ومن برج عاجي (والعاج لا يحترق) يوزعون الاتهامات علينا, هذا وطني وذاك خائن, هذا لائق وذاك لا يليق, دون حتى أن يخبروننا, ما هو معيار الوطنية واللياقة عندهم, وأظن وبعض الظن فطنة, أن المعيار هو النعيق كالغربان على شجر الوطن, وهو ما لا أجيده!؟.
ذُهلت, ولكني عدت وتذكرت, أن هذا مجرد امتداد لظواهر كثيرة أفرزتها الحرب, وأسميها “تحنيط الموت”, وأعني بها تلك الملاحم الكلامية التي يتغزل بها بعضنا, ويبحثون فيها عن تفسيرات أخلاقية, وروحية, و”أخروية” للوجع, بل بالأصح للبشاعة, التي نعيش فيها, نحن الذين لم نغادر الوطن, ولم نُحمّل أحداً جميل بقائنا, بل عايشنا الحرب علينا لحظة بلحظة, وشهيداً تلو الآخر, وخيبة تجر خيبة.
عايشنا وتعايشنا, ولكن لا أظن أن أحداً منا, اعتبر أن مايجري لنا وبنا, بركة وهبة من الرب يجب أن تدبج بها القصائد, وأن تحتسى على شرفها الأنخاب, بل أظننا نجد في هذه الملاحم الشاعرية, نوعاً من العجرفة الأيديولوجية, والمزايدة الوطنية, والتزييف لمشاعر أغلب الناس, الذين وإن كانوا يتعالون على الجروح بالزغاريد, وعلى الشهقات بالبسملة, إلا أنهم لا ينكرونها ولاينظرون إلى مآسيهم, على أنها مجرد كرنفال رعب عابر, سينتهي بخلع الأقنعة, وتبادل القبلات, والعودة إلى المنازل, لأن النوم سلطان!.
تعايشنا واحتملنا وسنحتمل, وسخرنا وسنسخر, لكننا في ذات الوقت نكره السياحة فوق جروحنا وبؤسنا, وتعف آذاننا عن تسويق ما يحدث لنا, باعتباره حيوية وطنية, ونهوض حضاري, ونعمة إلهية, أو ولادات تاريخية, وهو انحطاط إنساني غير مسبوق تاريخياً, وغير مبرر ولن تغطي عفونته القشور الشعرية, وقلوبنا معفوفة عنه, كما عفت من قبل, عن كل قائل استمات في تصوير ما يحدث من مذابح ومجازر, على كونه ثورة أو حرية!!.
نكره ذلك, ونشعر بالغصة على آلاف الشهداء, أن تختلط جثامينهم بجثث الكلام الغث, كما تخنقنا الدموع ونحن نتذكر, كيف فقدنا في السنوات الأخيرة أجمل وأنقى ما فينا, بحيث ضاعت المعايير, وصارت التهم والألقاب توزع جزافاً, هذا خائن, والآخر ثائر, ونحن نعيد تعريف الحياة بالصمود, لأنه لا يجب أن يهزمنا التجويع لا جملة ولا مفرق, ونحن من هزمنا الحرب جملة ومفرق.