تحقيقاتصحيفة البعث

مدير إدارة مكافحة الإتجار بالأشخاص لـ “البعث”: لم يتم اكتشاف أي حالة إتجار سواء داخل المشافي أو في العيادات الخاصة، وما يتم تداوله على “صفحات الفيسبوك” لا يمت إلى الواقع بصلة

 

كثرت في الآونة الأخيرة الشائعات حول عمليات الخطف والإتجار بالأعضاء، ولم تقف مساهمة “النشاط الفيسبوكي” في إشعال مخاوف الناس، بل تعدى ذلك إلى اتهام كوادر المؤسسات الطبية بالمشاركة في هذه الجرائم لإضفاء الواقعية عليها، ولزعزعة الثقة بالمؤسسات الحكومية، وتشويه الواقع المجتمعي السوري، وطبعاً ذلك لا يعني انعدام الجريمة، وغياب السلوكيات الإجرامية، إلا أن البحث في هذا الموضوع مع الجهات المعنية أثبت أن ما يجري في الواقع ضمن الحدود الدنيا بعد استثناء حالات التبرع التي تتم طواعية ودون سماسرة لدوافع متعددة منها الإنساني، أو الاجتماعي المحكوم بعلاقات القربى العائلية، إلى جانب تلك المدرجة في خانة البيع الطوعي الذي يساهم في إنقاذ حياة إنسان مريض ويحتاج إلى “كلية”، وفي الوقت نفسه يقدم الدعم المادي لأسرة المتبرع التي فقدت كل مصادر العيش، وهذه العملية تتم عبر الإعلانات والملصقات التي نقرؤها في مختلف المناطق، وعبر التواصل وإجراء الفحوصات اللازمة لحماية حياة المتبرع، ولتأكيد عدم التسبب بأية أذية صحية له، وقد تابعنا بعضها، وبمعرفة أصحاب العلاقة من الطرفين، وتواصلنا معهم فلم نجد أي حالة إجرامية أو مخالفة تستدعي المحاسبة القانونية، خاصة بوجود الموافقة الرضائية على ذلك.
البحث والمتابعة لحالات الإتجار بالأشخاص، وتقليب صفحات هذا الملف الذي كان محل جدل ونقاش داخل المجتمع السوري، أوصلنا إلى مكتب العميد نضال جريج مدير إدارة مكافحة الإتجار بالأشخاص الذي قدم لنا معلومات شاملة حول واقع حال جرائم الإتجار بالأشخاص، وزودنا بإحصائيات عن السنوات الماضية، وكان، والحق يقال، متعاوناً معنا لتوعية الناس وخدمة المجتمع، ولدحض تلك الشائعات المسمومة بغاياتها وأهدافها التي تختلق وتفبرك القصص الجرمية لإثارة البلبلة والمخاوف، وزعزعة الاستقرار المجتمعي.

منذ القدم
الحديث مع العميد جريج كان له طابع الحوار المفتوح غير المقيد بصيغة السؤال والجواب، فقد حرص على الإحاطة بكل جوانب الموضوع، وتقديم معلومات وافية عنه، حيث بدأ حديثه عن وجودها التاريخي في زمن العبودية، ومن ثم بدأت أشكالها بالتطور لتأخذ أساليب الجريمة في العصر الحديث، ومن ثم انتقل عبر تسلسل زمني للحديث عن القوانين التي كانت تتصدى لمثل هذه الجرائم في بلدنا: قانون مكافحة الدعارة لعام 1961، قانون الأحداث لعام 1974، قانون تنظيم عمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية لعام 2003، والمرسوم التشريعي رقم 33 لعام 2005 المتضمن تشكيل هيئة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والمرسوم التشريعي رقم 62 لعام 2007 المتضمن نظام المكاتب الخاصة العاملة في مجال استقدام العاملات من غير السوريات، وقد أخذت هذه الجريمة التسمية بعد صدور المرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2010 الذي حدد الأفعال والأدوات والنتائج الجرمية لهذه الجريمة مثل: “استدراج، نقل، اختطاف، ترحيل، إيواء، استقبال”، أما الأدوات فهي: “استعمال القوة أو التهديد باستعمالها أو اللجوء للعنف، الإقناع، استغلال الجهل، استغلال الضعف، الاحتيال، الخداع، استغلال المركز الوظيفي، التواطؤ، أو تقديم المساعدة ممن له سلطة على الشخص الضحية”.
وبالنسبة للنتائج الجرمية حددها العميد جريج باستغلال دعارة الغير، والأشكال الأخرى للاستغلال الجنسي، والعمل الجبري، والخدمات الجبرية، والرق، والممارسات الشبيهة به، واستغلال العمالة المنزلية بما يخالف التشريعات الناظمة لذلك، والإتجار بالأعضاء البشرية، وبالأطفال لغرض استغلالهم في الأنشطة الإجرامية، بما في ذلك أعمال الدعارة، والمواد الإنتاجية، وأعمال السخرة.

الأرضية الخصبة
وبيّن مدير الإدارة أن دول المنشأ هي الدول الفقيرة التي شهدت نزاعات مسلحة، والتي تعاني من أزمات اقتصادية، وبشكل عام فقد زادت حالات الإتجار نتيجة الأزمات التي تمر بها المنطقة، حيث تشكّل الحروب والنزاعات المسلحة الأرضية الخصبة لانتشار جرائم الإتجار بالأشخاص، وفي سورية، حسب المعلومات الواردة، فإن هذه الحالات زادت في مناطق النزاع المسلح التي كانت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية المسلحة، حيث زادت حالات الترحيل القسري، والتهجير، والإتجار بالأشخاص لقاء المنفعة المادية لهذه المجموعات الإرهابية التي لها ارتباطات بدول خارجية، سواء كانت عربية أو أجنبية.
ولم يغفل الإشارة إلى أسباب انتشار حالات الإتجار بالأشخاص التي وضعها في خانة عدم الاستقرار السياسي، والحروب، والنزاعات المسلحة، والهجرة غير المشروعة، واللجوء، والنزوح، بالإضافة للفقر الشديد، وعدم توفر فرص العمل، وعدم التكافؤ في التنمية، ويمكن أن نضيف ضعف الوازع الأخلاقي والديني، وغياب الوعي لدى أفراد المجتمع بتداعيات ومخاطر هذه الجريمة، بالإضافة للأرباح الطائلة التي حصل عليها المتاجرون من جراء ارتكابهم لهذه الجريمة.

أرقام وضبوط
خلال الجلسة التي استمرت لأكثر من ساعتين، حاولنا استثمار كل دقيقة للحصول على أكبر قدر من المعلومات والإحصائيات التي تشكّل معياراً على مصداقية أية جهة، وهي في الوقت ذاته دليل واضح على كذب ما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في أحاديث الناس عن هذه الجريمة، ونود هنا الإشارة إلى أن العميد جريج لم يتوقف خلال فترة وجودنا عن متابعة قضايا الناس، والتوجيه لمعالجتها مباشرة، ولم يتوان في الوقت ذاته عن توضيح القضايا التي نطرحها بما يخص عدد حالات الإتجار المضبوطة حتى الآن، ونسبة الضحايا من النساء والأطفال، وبيّن لنا أن جريمة الإتجار بالأشخاص مثل باقي الجرائم لابد من توفر أركان الجريمة، وفي هذه الحالة لابد من فعل وأدوات ونتيجة جرمية، وفي ضوء ذلك تم ضبط عدد من الحالات وتنظيم الضبوط اللازمة بها، وتمت إحالتها إلى المراجع القضائية المختصة، حيث بلغ عدد الضبوط ما بين عامي 2011– 2019 (519) ضبطاً بحالات الإتجار بالأشخاص، ووصل عدد الموقوفين خلالها إلى /655/، منهم 280 من النساء، و154 من الأطفال، ما يدل على أن النساء والأطفال هم في أغلب الأحيان ضحايا تلك الجرائم، وقد أولى القانون في هذا المجال الاهتمام اللازم بالضحايا ورعايتهم، وتأمين الحماية اللازمة لهم، ومن هذه الحوادث على سبيل المثال ضبط شبكة لتجارة الأعضاء “بيع كلى” لمواطنين سوريين في مصر عام 2011، وشبكة لبيع الأطفال حديثي الولادة في لبنان عام 2011، وشبكات تعتمد على شراء الفتيات، لاسيما القاصرات من أجل تشغيلهن بالدعارة داخل القطر وخارجه عام 2011– 2012، ومحاولة بيع طفلة قبل الولادة عام 2015، وشبكة لدى محاولتها استدراج أشخاص لبيع الكلى في لبنان عام 2016، وشبكة تقوم بتشغيل الأحداث بالنشل والتسول في أحياء مدينة دمشق عام 2017، وشبكات تقوم بإرسال الفتيات السوريات والعراقيات إلى دول الخليج ولبنان للعمل بالدعارة عام 2016- 2018، وشبكات دعارة عام 2019، وقيام شخص بالنصب والاحتيال على محتاجي الكلى بحجة تأمينها لهم عام 2019 أيضاً، وفي النهاية فإن الوصف الجرمي للفعل والتكييف القانوني للجرم يتم من قبل القضاء لأنه صاحب الصلاحية بذلك.

تواصل مع الخارج
ولم ينف مدير الإدارة وجود تعاون بين شبكات دولية تعمل على الإتجار بالأشخاص وشبكات تعمل بالداخل وتتواصل مع الخارج بأساليب عمل وطرق تواصل مختلفة، فشبكات الإتجار بالأشخاص غالباً ما تكون دولية، ويمكن أن يكون عملها مقتصراً على الداخل، وتلجأ إلى أساليب متنوعة في عملها مثل: “استعمال القوة والتهديد باستعمالها أو اللجوء للعنف، والإقناع، والاحتيال، والخداع، كما تعتمد على الاستدراج، أو الإيواء، مستغلة بذلك وضع الضحية المادي، أو الاجتماعي، أو النفسي، وتعتمد في تواصلها على التقنية الحديثة بوسائل الاتصالات، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما تلجأ إلى موضوع الحوالات المالية لتقاسم المبالغ النقدية التي تجنيها من هذه العمليات، وهي بالنتيجة مبالغ وأرباح طائلة.

أساليب الإتجار
وأراد العميد جريج خلال الحديث وتبادل وجهات النظر تسليط الضوء حول قضية استغلال الفتيات وحتى الذكور بالدعارة كأحد أساليب الإتجار الخطيرة، لافتاً إلى ازدياد شبكات الدعارة، واستغلال الفتيات خلال هذه الفترة نتيجة الأحداث التي تشهدها سورية، ونتيجة التفكك على صعيد الأسرة الواحدة، والوضع الاجتماعي، والاقتصادي، والنفسي، والأخلاقي الذي أفرزته الأزمة الحالية، وكل ذلك خلق بيئة خصبة لنشاط شبكات الإتجار في مجال الدعارة واستغلال الفتيات سواء داخل القطر أو خارجه، وهذه الشبكات لا ترتقي إلى درجة أن يطلق عليها منظمة إلا في حال امتدت إلى خارج البلاد، أو كان أعضاؤها مجموعة أشخاص /أكثر من شخص/، وقد بلغ عدد القضايا المسجلة تحت هذا العنوان (شبكات دعارة منظمة) لعام 2019 (9) قضايا تم بموجبها توقيف /10/ أشخاص يقومون بإدارة هذه الشبكات، أما بالنسبة للذكور فيقتصر الأمر على حالات الممارسات اللاأخلاقية، ولا ترتقي إلى شبكات الدعارة المنظمة في هذا المجال، وقد وصل عدد الضبوط المنظمة بهذا الحالات إلى 20 ضبطاً من خلال توقيف 82 موقوفاً من عام 2011 حتى عام 2019.

ليست رائجة
وتوقف مدير الإدارة معترضاً على كلامنا حول أن تجارة الأعضاء باتت من الجرائم الرائجة في بلدنا، حيث بيّن أن تجارة الأعضاء البشرية لا يمكن وصفها بالرائجة بالوقت الحالي في سورية، وتابع ليقول لنا بلهجة واثقة: إذا أردنا تحديد ذلك أكثر فإنه يمكن أن تكون هذه التجارة رائجة في المناطق التي كانت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية المسلحة، أما بالنسبة للمناطق الآمنة فإنها محدودة جداً، وقد تم ضبطها في حينها، وتعود لأعوام سابقة، وتم تقديم مرتكبيها للقضاء أصولاً، كما تم ذكرها بمواقع الكترونية سابقاً في هذا العام، ولم يتم اكتشاف ارتكاب أي من هذه الحالات سواء داخل المشافي أو العيادات الخاصة، ويجب التنويه هنا إلى أن ما يتم تداوله أحياناً على مواقع التواصل قد لا يرتبط أو لا يمت إلى الواقع بصلة، وأن ما يتم نشره في هذا المجال يجب أن يؤخذ على سبيل التوعية، لا أن يكون سبباً للخوف والهلع من إمكانية وجود مثل هذه الحالات فعلاً، وأضاف بأن الحوادث الهامة يتم عرضها من خلال المنبر الإعلامي لوزارة الداخلية، البرنامج التلفزيوني “العين الساهرة”، والإدارة تقوم من خلال ضباطها وعناصرها بمتابعة أية معلومة ترد في هذا المجال بهدف استثمارها من أجل الوصول إلى الأشخاص الرئيسيين الذين يديرون مثل هذه الشبكات، وهنا لابد من تعاون الإخوة المواطنين من خلال الإبلاغ عن أية معلومة أو حادثة ترد إليهم أو يسمعونها مهما كانت صغيرة على أرقام الطوارىء بوزارة الداخلية، لاسيما (3117311) المرتبط بالإدارة مباشرة، لأن جرائم الإتجار من الجرائم المعقدة والمركبة، وتحتاج إلى دقة في العمل، وتضافر كافة الجهود للوصول إلى الجناة، وحماية الضحايا من براثن هؤلاء الجناة.

تحديات
وحول التحديات التي تواجهها الإدارة لخصها لنا العميد جريج وصنفها بالتحديات المرتبطة بالطبيعة الخاصة لعناصر وأركان جرائم الإتجار بالأشخاص، والتحديات المتصلة بسهولة التعرّض لخطر الإتجار بالأشخاص نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب تلك المتصلة بتعزيز القدرات الوطنية لمكافحة جرائم الإتجار بالأشخاص (نشر الوعي، عدم الجرأة بالاعتراف من قبل الضحية أو الإبلاغ عن ذلك)، وما يتعلق بملاحظة وتقييم معايير مكافحة جرائم الإتجار بالأشخاص (عدم وجود تقديم ثابت على مستوى الدول).

تعاون محدود
قبل أن ننهي حديثنا مع مدير إدارة الإتجار بالأشخاص أكد على أن التعاون مع الأنتربول الدولي لمكافحة الإتجار بالأشخاص لا يتعدى 10%، وذلك نتيجة الظروف الراهنة، لافتاً إلى مؤتمر الأنتربول الدولي الأول لمكافحة الإتجار بالأشخاص الذي انعقد في سورية ونظّمته وزارة الداخلية بالتعاون مع المنظمة الدولية للشرطة الجنائية، بمشاركة /53/ دولة عربية وأجنبية، و/11/ منظمة، وذلك في الشهر السادس من عام 2010 من أجل إيجاد آلية تنفيذية دولية لمكافحة الإتجار بالأشخاص.

بشير فرزان