الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بيننا.. بحر معتم ظالم!

حسن حميد

فرحت، كما لو أنني استحوذتُ على حلم بعيد، حين أُهديت نسخة جديدة من رواية /صمت البحر/ للفنان الفرنسي جان بروليه التي وقّعها باسم /فيركور/، أي باسم منطقة من مناطق مدينة باريس طلباً للتخفي والسرّانية لأن الرواية رواية مقاومة تدين الاحتلال الألماني للأراضي الفرنسية عام 1940.

كُتبت هذه الرواية، وهي صغيرة لا تربو على مئة صفحة، عام 1941، وطبعت عام 1942 في دار /منتصف الليل/ التي أنشئت على عجل لطباعة المنشورات المقاومة للاحتلال الألماني، وقد سميت بهذا الاسم لتدل على هذه السرّانية. آنذاك، شكّل بعض الأدباء والفنانين الفرنسيين مجموعة ثقافية تناضل ضد الاحتلال الألماني، وكان من بينهم الشاعر الفرنسي لويس أراغون، وراحوا ينشرون ويوزعون منشوراتهم سراً.

صاحب هذه الرواية جان بروليه فنان تشكيلي، ميوله اشتراكية، كان يرسم رسومات الكاريكاتير للصحف الفرنسية، وهي أول عمل أدبي له، ولعله كتبها على عجل لأن أعضاء المجموعة كانوا أهل حماسة وقّادة، منهم من كتب البيانات والقصائد والروايات والقصص والمقالات، ومنهم جان بروليه الذي كتب هذه الرواية الصغيرة /صمت البحر/ ولكنها الكبيرة والمهمة بما تشتمل عليه من أدب رفيع، وجمالية أسلوب، ورهافة وحساسية، وتصوير لطباع شخصيات ثلاثة تقوم عليها الرواية هي رجل عجوز /صاحب فندق/ وابنة أخيه الشابة الجميلة عازفة البيانو، والضابط الألماني الذي يمر بهما مساء كل ليلة طوال ثلاث شهور من احتلال ثقيل بغيض! الضباط الألمان احتلوا الفندق، وأخذوا بعضاً من غرفه وأقاموا فيها عنوة، ولم يكن لصاحب الفندق الرجل العجوز من قوة لمنعهم، ومن بين هؤلاء الضباط الضابط الألماني الذي يقتحم على الرجل العجوز وابنة أخيه مساءهم كل ليلة ليتحدث عن أمور كثيرة، ومنها الحديث عن ألمانيا وقيادتها العسكرية التي تريد تحطيم الروح الفرنسية وليس احتلال أراضيها فحسب، وعن التوحش الألماني الذي لا يقبل به ولا يؤيده، كما يتحدث عن فرنسا الثقافة والحضارة، وعن أدباء فرنسا الكبار، وعن الروح الفرنسية الصلدة التي يرى أنها تقاوم الألمان بشراسة، ولن ترضى إلا بالمقاومة لمواجهة احتلال الأرض وكسر الإرادة الفرنسية! الضابط الألماني يتحدث أيضاً عن الموسيقا، فهو موسيقي يعشق الفن، وهذا الكلام يسعد الشابة الجميلة ابنة أخي صاحب الفندق لأنها عازفة بيانو وتحب الموسيقى، ويوازي حديث الضابط صمت مطبق من صاحب الفندق، الرجل العجوز، ومن ابنة أخيه، والأهم هو تصوير دواخل النفوس الثلاثة وما يجول فيها، فالرجل العجوز صاحب الفندق يشعر بالضيق وعدم الرضا لأنه لا يشارك الضابط الألماني الحديث، وحين يبقى وحيداً مع ابنة أخيه يقول لها كان علينا أن نجامله ببعض الكلمات لأن ابنة أخيه تقابل الضابط بالصمت المطلق أيضاً، دواخل نفس الضابط تؤكد له كل ليلة أنه مكروه من الرجل العجوز صاحب الفندق، ومن ابنة أخيه، وأنه في نظرهما ضابط محتل ليس للأراضي الفرنسية، والفندق الفرنسي فحسب، وإنما هو محتل لعزلتهما ووحدتهما، فما إن يدخل ويبدأ الحديث عن موضوع ما حتى يعيش الاثنان غيبوبة من الصمت الثقيل.

طبعاً كان الضابط الألماني يدين الحرب، ويدين الاحتلال الألماني، ويقول للعجوز والشابة، إن ثقافة التوحش تجتاح المزاج الألماني، وأن ثقافة القوة غدت سلوكاً ألمانياً، وأنه جاء إلى الجيش وهو يحلم بأن يقنع من هم حوله بلا جدوى القوة لأنها لا تدوم، وأن القوة توحش وليس حضارة!

يستلطف الضابط الألماني الشابة الفرنسية، فيلعب على الوتر العاطفي لاستمالتها، وتستلطف الشابة الفرنسية الضابط الألماني لأنه وسيم، ومثقف، ويحب الموسيقى، ويكره الاحتلال، ويلعن التوحش الألماني.. ومع ذلك ظل الصمت بحراً بين الطرفين، الضابط الألماني/المحتل من جهة، والرجل العجوز والشابة الجميلة من جهة أخرى لأن ما بينهما بحر معتم ظالم.. اسمه الاحتلال!

Hasanhamid55@yahoo.com