دراساتصحيفة البعث

مقايسة المؤامرة ومنعة الجوهر السوري

ريا خوري

شهدت المنطقة العربية وما زالت تشهد حراكاً شعبياً واسعاً اتخذ اسم الثورات حيناً والانتفاضات حيناً آخر، والاحتجاجات في أحيان أخرى، الواضح في ذلك الحراك أن العديد من المراقبين اعتبر أنَّ كل ما يحدث في تلك البلدان هو حدث تاريخي، ويتشابه بين تلك البلدان، بل تتطابق مجريات الأحداث فيها إلى حدّ ما، إذ أنه من الخطأ اعتبارها كذلك. وهنا تأتي مفارقة تأييدها عند البعض والتضامن معها تبعاً لتلك الرؤية، فالمعيار ليس هو المعارضة فقط وأسلوب التعبير من مسيرات ومظاهرات، بل الأساس لرؤية أيِّ منها هو السؤال عن هدف هذه الانتفاضات، ثم عن هوية القائمين عليها والداعمين لها، فعندما انطلقت الثورة في تونس ومن ثم في مصر أدركنا أهمية التلازم المطلوب ما بين الفكر والأسلوب والقيادات في أية حركة تغيير أو ثورة، وبأنَّ مصير هذه الثورات أو الانتفاضات ونتائجها سيتوقف على مدى سلامة هذه العناصر الثلاثة معاً. على الرغم من أن تلك الثورات لم تتفجر من أكمام الانقلابات العسكرية التي كانت معهودة في العالم العربي خلال ستينات القرن الماضي، كما لم تخرج من مكاتب ومنتديات الأحزاب الموجودة، معارضة علنية أم سرية محظورة، سيان. وثانيها أنها بلا إيديولوجيا معيّنة، فلا هي قومية على سبيل المثال، ولا علمانية، ولا دينية بالمعنى الدقيق، ولا أي شيء، سوى ما ترفعه من شعارات موحّدة تختصرها كلمة واحدة (الحرية)، أو جملة حاسمة (الشعب يريد إسقاط النظام). وثالثها أنها بلا قيادة منظورة كما حدث في تونس ومصر، فليس ثمة من يقودها أو يوجهها أو يحدّد لها شعاراتها وهتافاتها، ورابعها أنها انطلقت فجأة من دون مؤشرات مسبقة لها.
لكن الوضع في سورية يختلف اختلافاً جذرياً، فالتغيير السياسي وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية ومنها سورية هو أمر مرغوب ومطلوب لدى العرب جميعاً. لكن من سيقوم بالتغيير وكيف؟ وما هو البديل المنشود؟ وما هي تأثيراته على دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية؟.
وفي الردّ على تلك التساؤلات يتبيّن أنَّ المشكلة في الموقف من الأحداث الجارية في المنطقة، والتي تؤكد أنَّ المعايير ليست واحدة عن العرب ككل، فصحيح أنها تحدث على الأرض العربية وتترك تأثيراتها على المنطقة بأسرها، لكن ما هو معيار شعبي عربي عام لدعم هذه الثورة أو تلك يختلف ربما عن معيار أبناء الوطن العربي نفسه.
نعم إنَّ التغيير البنيوي الجاري في المنطقة يطال أنظمة رهنت بلدانها للمشروع الصهيو– أمريكي، كما وقفت في وجه القضية الفلسطينية ليس موقف المحايد بل موقف العداء ودعمت مشروع صفقة القرن، ووقفت في مواجهة المشروع القومي العربي، وعملت على اختراق الأمن القومي العربي من خلال فتح بلدانها لعشرات بل مئات القواعد العسكرية الأمريكية والغربية على أراضيها، وقمعت شعوبها ومنعتها من التعبير عن حريتها السياسية والثقافية والإنسانية، كما استأثرت بثروات البلاد لمصالحها الشخصية عبر انتشار الفساد، هذه الأنظمة وفي مقدمتها مصر (حسني مبارك) هي التي حاصرت قطاع غزة من الطرف المصري وبنت في وجه الفلسطينيين الجدار الفولاذي، وأعطت الضوء الأخضر لقوى الطغيان الصهيوني والأمريكي لذبح الفلسطينيين في وضح النهار. أما تونس فكانت محطة لزعماء العصابات الصهيونية من مجرم الحرب شمعون بيريز إلى شارون، وأولمرت، وتسيبي ليفني وغيرهم. أما ما يجري في سورية فهو مؤامرة كبرى حيكت في الغرف المظلمة من أجل تركيعها، لأنها وقفت وتقف في مواجهة المشروع الصهيو- أمريكي، كما وقفت داعمة للمقاومة الفلسطينية واللبنانية والمقاومة العراقية، مستخدمةً كل أشكال الفتنة المذهبية والطائفية، تساهم فيها كل القوى الظلامية الغربية والعربية، بأدوات الإسلام السياسي السلفي والمجرمين والخارجين عن القانون.
نعم، يأتي الحراك العربي الجاري، ببرهان تاريخي دامغ، يعرّي تفسيرات تزوير التاريخ، التي على تنوعها، تأثرت بتفسيرات الغلاف الأيديولوجي لممارسة الاستعمار والتبعية لبلدانه، ورضعت من ثدي نظرية المركزية الأوروبية، التي أسقطت الخصوصية الأوروبية على خصوصيات باقي الأمم، على حساب المشروع القومي العربي والقضية الفلسطينية، بهدف تفكيكها وتشويهها، تبعاً لمتغيّرات التاريخ، في صياغة الحضارة البشرية ومنجزاتها. وأكثر من ذلك، فقد برهن الحراك العربي أن التاريخ لا يعرف (نهاية) أو نمذجة، بل يتطور سائراً للأمام، وإن تخلّل مساره تعرجات والتواءات، بل وارتدادات كبرى للوراء أحياناً. فالناس يصنعون تاريخهم في نهاية المطاف، والشعوب العربية ليست خارج هذا القانون. وظاهرة تخلف التجربة العربية عن تجارب أمم عانت مثلها ويلات الاستعمار، لا يمكن تفسيرها بتفسيرات (فوق تاريخية)، بل بالعودة إلى (التاريخ الذي لا نصدّق غيره)، عبر التذكير بخصوصية لازمت انطلاقة الاستقلال القومي العربي، ولاحقت مسيرة تطوره الوطني والديمقراطي، وتمثّلت في العديد من الوقائع التاريخية التي تمثلت بإضافة للعام الذي جمعها بتجارب الاستقلال القومي لأمم خضعت للاستعمار. كان لتجربة الاستقلال القومي العربي خصوصية، تمثلت في انطلاقه مثقلاً بإرث أربعة قرون من سيطرة الإمبراطورية العثمانية، التي سطت على مقدرات الوطن العربي بآليتين: آلية النهب الريعي للمقدرات الاقتصادية، عبر جمع الخراج لخزينة الباب العالي وبذخ سلاطينه، وآلية الاستنزاف للمقدرات البشرية، وتسخيرها في خدمة حروب العثمانيين وطموحاتهم الإمبراطورية. كما تمثلت بإضافة للعام الذي جمعها بتجارب أمم خضعت للاستعمار. كان للتجربة العربية خصوصية، حيث لم يكتفِ الاستعمار الأوروبي الغربي بنهب مقدرات الأمة العربية، كما فعل مع أمم أخرى، بل، أضاف تمزيق وحدتها الجغرافية والسياسية أيضاً، بمشرط اتفاقية سايكس بيكو، ناهيك عن وعد بلفور، الذي أنجب الكيان الصهيوني، كاحتلال استيطاني اقتلاعي ابتلاعي لفلسطين، له وظيفة المساهمة في كبح التغيير وتكريس التبعية في كامل الوطن العربي. وبتضافر واقعتي الإرث العثماني والتجزئة التي أحدثها الاستعمار الأوروبي في التجربة العربية، تضاعف تشويه الحوامل الاجتماعية والسياسية الداخلية، واكتست تجربة الاستقلال القومي العربي بخصوصية، لاحقتها صيرورة وإنجازات، مقارنة بتجارب أمم أخرى خضعت للاستعمار وويلاته. وتمثل ذلك في أنَّ الاستقلال العربي انطلق قُطرياً وغير موحد. فقد أفلح التحالف بين العثماني (المريض) والاستعماري الغربي الناهض، بإجهاض انطلاقة موحدة للاستقلال العربي. ويعدّ إجهاض حركة محمد علي التوحيدية التحديثية الواقعة التاريخية الأبرز على هذا الصعيد، إضافة إلى أن انطلاق الاستقلال العربي كان مساوماً وغير حاسم. فقد أفلح تضافر الإرث العثماني والاستعماري الغربي، بمضاعفة تشويه التركيب الاجتماعي والسياسي العربي الداخلي، الذي حال دون توفر حامل اجتماعي يقود بحسم واتساق معركة الاستقلال الوطني، وينجز حتى النهاية مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.
لقد أرسى القائد المؤسّس حافظ الأسد ركائز المنعة السورية من خلال البناء الداخلي والخارجي لجوهر سورية وبنيانها التي بدأت تتعاظم قوتها ومنعتها ضد كل أشكال المؤامرة، وأخذت تتبلور بشكلٍ جليّ وواضح على يد السيد الرئيس بشار الأسد الذي تصدى منذ وصوله إلى منصب الرئاسة إلى عشرات المؤامرات، بدءاً من الضغوط الخارجية لخروج الجيش السوري من لبنان، ووقف المؤامرات التي حيكت ضد سورية إبان احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003، ومن ثم تداعيات استشهاد رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري 2005، ومن ثم الحرب الطاحنة في لبنان تموز 2006 وتداعياتها الخطيرة، وبعد عامين كانت الحرب على غزة في 2008– 2009.
ومنذ عام 2011 تعرضت سورية لأعنف العمليات العسكرية والأمنية الإرهابية. وفي كل مرة يتمكَّن السيد الرئيس بشار الأسد مدعوماً من الجماهير الواعية لحقيقة تلك المؤامرات ومن الدول الحليفة لسورية مثل روسيا وإيران من التصدي لكل ما سبق. أما اليوم فيتمّ تفكيك حلقات المؤامرة على سورية ضمن خطين متكاملين، الخط الأول هو الحيوية الإيجابية للمنعة الوطنية، وخط موازٍ يتغذى من العديد من الثغرات على مقلبيها الخارجي والداخلي. وأبرز هذه الثغرات انطباق الخطاب السياسي لما يُطلق عليهم بـ(الإصلاحيين) مع خطاب الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة فيما يتعلق بحزب الله والمقاومة الفلسطينية والعلاقة مع إيران. وثاني هذه الثغرات أنَّ الضبابية التي تسم خطاب (الإصلاحيين) الاقتصادي على تباينات طيوفهم التي تتخذ من التبعية للغرب الإمبريالي، إنما تعمر سداً حائلاً دون استجابة جماهيرية يمكن أن يعتد بها من يتنطح لشعار (إسقاط النظام)، ولذلك فإنَّ استهداف المنعة الوطنية لحرمان سورية من الحيوية الإيجابية في صد المؤامرة، كان الحلقة المركزية في شغل المخططين والمنفذين معاً. فقد فشلت الولايات المتحدة في حمل مجلس الأمن الدولي على إصدار بيان صحفي أو موقف علني يشرعن تدخلاً أجنبياً سافراً في شؤون سورية الداخلية، يمكن احتسابها نقطة لمصلحة سورية في سياق التدافع نحو الحسم بالنقاط. فقد بات واضحاً عدم تمكن الولايات المتحدة من تعويض خيبتها في مجلس الأمن ببيان من مجلس حقوق الإنسان، يفتقر إلى الانسجام والصدقية، فقد كان بيان جنيف بطريقة عرضه وظهوره يستحضر السيناريو العراقي لكونه وثيق الصلة بالكيان الصهيوني في تخريب سورية من الداخل وإظهارها أمام العالم بالدولة (القمعية) التي تقتل أبناء شعبها، ومحاولة تلطيخ سمعتها العالمية بهذه الافتراءات، وهي حجر الزاوية في الخطة التآمرية التي رسمتها الدوائر الظلامية في الغرف المظلمة، وذلك لخلق أزمة بنيوية تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم حسب مستجدات الأحداث، حيث تلازمت المؤامرات مع انطلاقة التظاهرات الشعبية السلمية المطالبة بالإصلاح، والتي مالبثت أن استخدمت السلاح ضد الشعب والحكومة في آن معاً. لقد تأكد السوريون من المفارقة في التعبير عن الإصلاح باستخدام من ادعوا (الإصلاح) باستخدام السلاح ضد المتظاهرين وقوات الأمن معاً، مما كشف عن مؤامرة المدّعي بـ(الإصلاحيين) في حراك مسؤول يختزن مشروعاً سياسياً وطنياً. وحقيقة ما جرى هو تماهي أجندة (الإصلاحيين) السياسية مع الأجندة الأمريكية والأجندة الصهيونية في موضوع فك الارتباط الاستراتيجي بين سورية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية بشكلٍ خاص والعربية بشكلٍ عام، وكذلك العلاقة مع إيران. لقد حرمت الولايات المتحدة من الحركة السلسة على هامش التدليس والاستنسابية للتدخل الموارب في الشؤون السورية الداخلية من بوابة مجلس الأمن، ثم من بوابة مجلس حقوق الإنسان من بوابة مجلس الأمن الدولي، ثم من بوابة مجلس حقوق الإنسان، إذ إنَّ موقف الولايات المتحدة من باب الدبلوماسية الأمريكية في شأن حقوق الإنسان السوري على وجه التحديد، إنما يوزن بالمقياس الفلسطيني، وبمقياس ما جرى للفلسطينيين في غزة بصفة خاصة، لكونها الشاهد على جريمة أمريكية– صهيونية ممتدة ومدماة ضد أية وثيقة أممية اعتمدها مجلس حقوق الإنسان وهيئات المجتمع الدولي، وتعطلها الولايات المتحدة نفسها، فهي تتلطى وراء جزئيات تبدو متكاملة لتخلق أزمة متكاملة في وجه سورية تحاول إكراهها على دخول بيت الطاعة الأمريكي، وتستأصل من يدها المنعة الإيجابية الوطنية، والواضح أنَّ المؤامرة التي حيكت خيوطها ضمن الغرف المظلمة في الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وبعض دول المنطقة أخفقت كمثيلاتها من المؤامرات التي رُصدت لها مليارات الدولارات وكل أبواق المخابرات المركزية الأمريكية والموساد الإسرائيلي والناطقة بالعربية، إضافة إلى ما تضمنته كل تقارير ديمستورا ومن سبقوه وما تسعى إليه كل القوى الظلامية من أجل تغيير الدستور واللعب على اللجان المشكلة من المعارضة والأمم المتحدة.
هذه المرة التي يتمّ فيها محاولة استباحة الشعب والنظام في سورية وسحبه من معقله في أرضه الوطنية، كممرات سابقة رسمت مخططاتها بوابات عديدة، ومن بوابة تحشيد من يعتبرون أنفسهم معتدلين، ومنهم مازالوا يقفون ضد عقيدة القومية العربية الإستراتيجية، تلك المخططات تتهاوى أمام الموقف الجوهري للقيادة والشعب في منعة وصلابة وقوة سورية واستحالة إركاعها أو (تغيير سلوكها) الذي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية وبقايا الدولة العثمانية المريضة شيطنة سورية بدل اقتلاعها كما رسموا خاسئين.