ثقافةصحيفة البعث

أبو خليل القباني من دمشـــــــق.. إلى مصــــــــر.. فشـــــــــــــيكاغو

 

لأن تجربته رائدة بكل معنى الكلمة وتميزت بالتحدي وعدم الاستسلام والنجاح في كل ما قدمه على الرغم من كل الصعوبات والمشاكل التي واجهها والأفكار والعادات والعقلية المتشددة التي كانت ترفض كل جديد بقي أبو خليل القباني رائد المسرح العربي محور اهتمام كل المسرحيين ومنارة لهم، ومهما قيل عن تجربته سيكون هناك الكثير من القول.. هذا ما أجمعت عليه الندوة التي أقامتها مديرية المسارح والموسيقا بعنوان “أبو خليل القباني سيرة حياة وفن” في مسرح القباني بدمشق، وتضمنت الندوة ثلاثة محاور أساسية: الأول القباني والمرحلة السورية والثانية القباني في القاهرة والثالثة القباني ورحلة شيكاغو .

مسيرة لم تكن مفروشة بالورود
وأكد الكاتب والناقد المسرحي جوان جان الذي تناول فترة القباني وعمله في دمشق أن مسيرة رائد المسرح السوري والعربي أحمد أبو خليل القباني لم تكن مفروشة بالورود، فمن محاولات تأليب الرأي العام عليه إلى محاصرة تجربته ومحاولة وأدها في مهدها إلى إحراق مسرحه أمثلة صارخة على ما جوبهت به تجربة القباني التي بدأت في أحياء دمشق عندما راح يتردد على المقاهي ويتابع عروض خيال الظل فتأثر بها وبقيت تفاصيلها في ذاكرته، ولمّا لاحت ميوله جلية في عالم الفن طرده والده من المنزل بضغط من بعض الشخصيات الدينية، إلا أنه وفي مرحلة لاحقة شكل تجمّعاً فنياً درامياً موسيقياً مؤلّفاً من أصدقائه، وبعضهم من المنشدين المعروفين، وفي العام 1871 أكمل إنجاز أول عروضه المسرحية “ناكر الجميل” وسرعان ما شكل بعد ذلك فرقة مسرحية تقدم أعمالاً ذات طابع اجتماعي تربوي، تنقّل بها في أحياء دمشق القديمة وكان يتابع عروضهاالأمراء والشعراء والأدباء وقد جمعت هذه العروض بين جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها، موضحاً جان أن مسرح القباني امتاز بالحرَفية في كل تفاصيله، ابتداءً من طقوس دخول الجمهور إلى مكان العرض المسرحي وشرائه للتذاكر، مروراً بأسلوب صناعة الديكور المكلف وعناصر الرقص والغناء والتمثيل الحي والأزياء والمكياج واعتماد الفصحى كلغة للتواصل وتحية الجمهور في ختام العرض، كما أنه استخدم النساء في مسرحه، مستعيناً بفنانتين من بيروت لتجسيد الشخصيات النسائية في عروضه بعد أن كان يعتمد لفترة من الزمن على الشبان الصغار في تجسيد الشخصيات النسائية، مبيناً جان أن القباني كان يقوم بمهام الكتابة والإخراج والتمثيل والتلحين والغناء وتصميم المناظر والملابس متناولاً مواضيع ذات بعد سياسي ومواضيع تتعلق بقضايا العدل والمساواة وقيم الحق والعدل، وهي من العوامل التي عجّلت بنهاية مشروعه في دمشق لأن المتحكمين بمقاليد الأمور وجدوا في هذه الطروحات تهديداً لمصالحهم وامتيازاتهم.. لتنتهي مغامرته المسرحية بحرق مسرحه في دمشق.

درس لكل المعنيين بالمسرح
وتوقف المخرج المسرحي د.تامر العربيد في مشاركته عند الفترة التي قضاها القباني في مصروهي فترة فيها من التحولات الفنية لمشروع القباني المسرحي الشيء الكثير، مؤكداً أن مصر عرفت القباني قبل وصوله إليها، فعروضه التي كان يقدمها في دمشق كانت تصل أخبارها لأهل مصر، موضحاً أنه وبعد حرق مسرحه في دمشق كانت الظروف مواتية لأن يتوجه القباني لمصر عام 1884 بتشجيع من أحد أصدقائه هناك وكانت الوجهة في البداية إلى الاسكندرية دون فرقته التي دعاها إلى هناك حين تهيأت الظروف المناسبة فقوبلت بالترحاب من قبل الصحافة المصرية التي تابعت أخبار وصولها إلى الاسكندرية التي قدمت فيها أولى عروضها “أنس الجليس” لتتتالى بعد ذلك العروض التي حققت صدى كبيراً في مصر وأثبتت أن القباني صاحب مشروع مسرحي لديه قدرة كبيرة على تقديم عروض مسرحية بمضامين تلاقي صدى عند الناس، وهذا ما تجسد على أرض الواقع في الاسكندرية من خلال النجاح الكبير الذي حققه والذي مهد له للتوسع باتجاه القاهرة وساعده في ذلك أحد الأصدقاء فتحدث عنه للخديوي الذي سرعان ما دعاه للقاهرة التي قدم فيها عدداً كبيراًمن العروض في دار الأوبرا والتي أكدت أنه يمتلك روح التجديد والحضور النوعي حيث حرك المياه الراكدة في الحالة الثقافية والمسرحية في مصر، منوهاً د.العربيد إلى أن القباني ولتجديد فرقته بشكل دائم بالأصوات والممثلين والراقصين كان يزور دمشق بين فترة وأخرى في الوقت الذي كانت فيه فرقته مستمرة في تقديم العروض في كل الأقاليم المصرية والتي كانت محط اهتمام الصحافة والنقد، فكانت تقام حولها الندوات للحديث عن مدرسته المسرحية في فن التمثيل ودوره في رفع الذائقة الاجتماعية والثقافية للمجتمع ولكن وبعد النجاح الكبير للقباني في مصر وكما خلقت عروضه روح المنافسة والكثير من المعجبين كثر الحساد والناقمين عليه ليفجع مرة أخرى بحرق مسرحه هناك وأصابع الاتهام كانت تشير إلى المنافسين له الذين أرادوا أن يتخلصوا منه بعد أن فرض نفسه على الساحة الثقافية في مصر.
مختتماً د.العربيد مشاركته بالتأكيد على أن القباني صنع منجزاً في ظروف لم تكن مهيأة لأي منجز، وتجربته تُعتبرتجربة رائدة لأنه كان صاحب مشروع مسرحي وتنويري، ولذلك فإن مسيرته هي درس لكل المعنيين في المسرح في التضحية والبذل وكيف يمكن أن يكون المسرح ليس حالة فنية فقط بل حالة مجتمعية وتنويرية .

ستة أشهر في شيكاغو
وأشار الباحث أ.أحمد بوبس إلى أن القباني وبعد عودته من القاهرة إلى دمشق دُعي للمشاركة في مهرجان كريستوف كولومبوس العالمي الذي أقيم بمناسبة مرور أربعمئة عام على اكتشاف القارة الأميركية، واستعداداً للذهاب إلى هناك اصطحب أعضاء فرقته من دمشق إلى القاهرة وأخضعها لدورة مكثفة في اللغة الإنكليزية وفي خريف 1892 غادر مع فرقته القاهرة إلى بريطانيا ومن ثم ركب باخرة إلى نيويورك فشيكاغو للمشاركة في المهرجان الذي شاركت فيه دول كثيرة وقدمت فرقته المؤلفة من خمسين ممثلاً وعازفاً وراقصاً ثلاثة عروض هي: “العرس الدمشقي، عنترة بن شداد، هارون الرشيد، وأنس الجليس” وتحدثت المحافل الأميركية عن عروضه وامتدحتها وقد أثبتت هذه العروض أهمية القباني كمخرج وممثل وملحن ومغنّ، منوهاً أ.بوبس إلى أن القباني لم يقدم عروضه في شيكاغو فقط بل تنقل بها في المدن الأميركية بعد أن بقي هناك نحو ستة أشهر.. وهكذا كانت هذه الرحلة من أهم مراحل حياته المسرحية،مؤكداً أنه كان سابقاً لعصره .
يذكر أن بوبس توقف في بداية حديثه عن رحلة القباني لشيكاغو عند بيت القباني بدمشق وقام بعرض بعض الصور والوثائق التي تؤكد مشاركة القباني في مهرجان شيكاغو .

أمينة عباس