دراساتصحيفة البعث

بريطانيا والولايات المتحدة.. تحالف حذر

ترجمة وإعداد: عناية ناصر
ذكرت صحيفة “ذا صن” في وقت سابق أن الولايات المتحدة وبريطانيا اتفقتا على توقيع اتفاقية تجارية بحلول تموز المقبل، لكن دقة القصة ليست واضحة بعد، فبالنسبة لبريطانيا، إن مغادرة الاتحاد الأوروبي وبناء علاقة تجارية أوثق مع الولايات المتحدة، وبالتالي مع أمريكا الشمالية، تخضع للمنطق الجيوسياسي.
كان موقف بريطانيا التاريخي تجاه أوروبا هو محاولة الحفاظ على توازن القوى في القارة، حتى لا تكون هناك قوة قادرة على تهديد السيادة البريطانية. كانت إحدى القوى التي دفعت الإمبراطورية البريطانية، هي الحاجة إلى تطوير الأسواق والحصول على الموارد من خارج أوروبا حتى لا تصبح معتمدة بشكل مفرط على أوروبا. وقد تمّ تصميم القوات البحرية الملكية لحماية بريطانيا من القوى القارية، وفي وقت الحرب، لحصار القوى الأوروبية المعادية دون الانجرار بشكل مفرط إلى القتال في القارة. تردّد البريطانيون لفترة طويلة قبل الموافقة على الانضمام إلى الجماعة الأوروبية وتردّدت القوى في القارة (خاصة فرنسا) لفترة طويلة قبل الاعتراف بهم.
لعب البريطانيون دوراً مهماً في إنشاء “مجموعة الدول السبع” الخارجية على أطراف القارة كبديل لما سيصبح الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. بالنسبة لبريطانيا، كان توحيد القارة في كتلة واحدة بمثابة كابوس دائم. كانت بريطانيا ضعيفة عسكرياً مقارنة بالقارة ككل، فقد اعتبرت سابقاً نابليون، على سبيل المثال، تهديداً وجودياً، ولو كان قادراً على فرض نظام مستقر، تسيطر عليه باريس، على القارة، لطغت القوة الاقتصادية والعسكرية التي كان بإمكانه حشدها على الدفاعات البحرية البريطانية في المدى غير الطويل، وأجبرت بريطانيا على تكييف نفسها مع الهيمنة الفرنسية، وكانت ستجد نفسها في هذه الهيمنة، في وضع غير مؤات دائم (مثلها مثل الدول الأخرى)، حيث رجّحت فرنسا النظام الاقتصادي لصالحها، لذلك انضمّت إلى التحالف المناهض لنابليون، وبعد واترلو، انسحبت بحذر من القارة، وركز نابليون على إمبراطوريته.
مع توحيد ألمانيا في عام 1871، تمّ جذب بريطانيا إلى أوروبا مرة أخرى، حيث وجدت نفسها في منافسة اقتصادية مع القوة الأوروبية الجديدة، ثم في المنافسة السياسية الإمبراطورية، وأخيراً دخلت في الحربين العالميتين. النقطة التي يجب وضعها في الحسبان هي العضوية في كتلة أوروبية تتعارض مع وجهات النظر البريطانية التاريخية عن أوروبا، حيث كان الخوف البريطاني هو أن القيود التي يفرضها أي تحالف أوروبي ستؤدي حتماً إلى إمالة النظام الاقتصادي ضد بريطانيا وتهديد سيادتها.
لقد تركت الحرب العالمية الثانية بريطانيا في موقف صعب، فقد أفلست نفسها في الحرب ضد ألمانيا، ما اضطرها للاستقواء بالولايات المتحدة. كان من شأن الانتصار الألماني أن يوحّد أوروبا ويخلق قوات بحرية من شأنها أن تحدّ من وصول الولايات المتحدة إلى البحار. أرادت الولايات المتحدة الشيء نفسه الذي أرادته بريطانيا، وهو منع هيمنة قوة واحدة من السيطرة على القارة، وبالتالي الحفاظ على تقسيم القارة من خلال توازن القوى. كان هذا هو هدف معاهدة “فرساي” التي منعت فرنسا من تقطيع ألمانيا وتحقيق هدف نابليون في السيطرة على القارة. مهدت “فرساي” أيضاً الطريق للحرب العالمية الثانية بمجرد أن أعادت ألمانيا تنظيم نفسها.
قبل ذلك لم تكن هناك ثقة بين بريطانيا والولايات المتحدة، حتى بعد الحرب العالمية الأولى، حافظت الولايات المتحدة على مجموعة من سيناريوهات الحرب التي تضمنت خطة “الحرب الحمراء” والتي كانت تستند إلى غزو بريطاني محتمل من كندا. كما نظرت واشنطن إلى البريطانيين كتهديد خلال الحرب الأهلية منذ أكثر من 50 عاماً، وكذلك منافس بحري في عام 1900، بينما نظرت بريطانيا إلى الطفرة الاقتصادية الأمريكية كتهديد لأسواقها وقيدت العلاقات الاقتصادية الأمريكية بقوة مع الإمبراطورية. في عام 1920، استمر الشك المتبادل، لكن حين قامت الولايات المتحدة بتأجير السفن لبريطانيا وضعت بريطانيا جميع قواعدها في نصف الكرة الغربي تقريباً تحت تصرف الولايات المتحدة، منهية قروناً من هيمنة المحيط الأطلسي وتهديداً دائماً للولايات المتحدة.
انتهت الحرب العالمية الثانية بتقسيم ألمانيا، وانهيار الإمبراطورية البريطانية، وبروز الولايات المتحدة كقوة مهيمنة. كانت الولايات المتحدة وبريطانيا حليفين في الصراع، لكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بأنهما شريكان مقربان. ففي عام 1956 منعت الولايات المتحدة بريطانيا (وفرنسا وإسرائيل) من السيطرة على قناة السويس، وحينها أوضح الرئيس فرانكلين روزفلت أن الولايات المتحدة تقاتل من أجل هزيمة ألمانيا وليس لإنقاذ الإمبراطورية البريطانية.
جعلت خطة مارشال التكامل الاقتصادي الأوروبي شرطاً مسبقاً للانتعاش، ونشأ الاتحاد الأوروبي، بطريقة ما، كخطة أمريكية، لكن التركيز الأمريكي لم يكن على التكامل الأوروبي، حيث كانت واشنطن قلقة بشأن السوفييت وأرادت أوروبا مزدهرة وموحدة وذات قوة عسكرية. كان البريطانيون غير مرتاحين للاندماج، وكان الفرنسيون حذرين تجاه بريطانيا، فالتوترات القديمة لم تحل. كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى ألمانيا لاستعادة عافيتها، لأن ألمانيا ستكون ساحة معركة لأي حرب مستقبلية وقد فعلت ذلك. وبمرور الوقت أصبحت أوروبا المتكاملة أوروبا التي يهيمن عليها الألمان، متقدمة عسكرياً، عدوانية اقتصادياً.
كان على البريطانيين تطوير إستراتيجية كبرى جديدة مناسبة لوضعهم الجديد، وكانت إستراتيجية بريطانيا هي الحفاظ على بعدها عن أوروبا من خلال بناء علاقة عسكرية واستخباراتية خاصة مع الولايات المتحدة، بينما تغمر بحذر أصابع قدميها في التكامل الأوروبي. بمعنى آخر، تمكّن البريطانيون من الحفاظ على توازن القوى الأوروبي، وفي الوقت نفسه خلق توازن بين أوروبا والولايات المتحدة باستخدام المجال الذي فتح لمتابعة مصالحهم الخاصة.
إن مأزق البريكست يدور اليوم حول القضايا نفسها: السيادة والازدهار. بالنسبة لبريطانيا، حقّق الاتحاد الأوروبي درجة من الازدهار على حساب خسارة درجة من السيادة، لكن الاتحاد الأوروبي لم يكن كياناً مرناً يمكن لبريطانيا من خلاله أن تعمل فيه على دهائها التاريخي، وقد أجبر هذا بريطانيا على التطلع إلى الولايات المتحدة كما فعلت خلال القرن العشرين.
كانت العلاقات العسكرية والاستخباراتية لبريطانيا مع مستوطنيها السابقين (الولايات المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا وكندا) بعداً مهماً لرؤيتها العالمية، كما كانت أيضاً أساسية لنظام التحالف الأمريكي، حيث شاركت جميع الدول الخمس في مجموعة تبادل المعلومات الاستخباراتية “Five Eyes” والإبقاء على تعاون عسكري وثيق.
لكن المشكلة بالنسبة لبريطانيا هي أن التحوّل في الموقف الاقتصادي من شأنه أن ينهي إستراتيجية توازن القوى على المدى الطويل. من ناحية أخرى، فإن البقاء في كتلة ليس لديها مصلحة في التنسيق الداخلي لبريطانيا سيكون ضاراً، وسيكون التحول معقداً ومؤلماً، لكن الألم الذي تشعر به بريطانيا الآن من الانقسام داخل بلدها أمر لا يطاق على الأقل. وإذا تحولت بريطانيا اقتصادياً إلى هذه الكتلة، فسوف نشهد ظهور تحالف اقتصادي وأمني فضفاض، لذلك لن يكون هناك أي مكان محفوفاً بالتوتر كما في بريطانيا، خاصةً وأن خروجها من الاتحاد الأوروبي سوف يقع وهو ما يفرض على بريطانيا أن تتخيّل كيف ستكون الحياة بعد انسحابها.