الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

أنقذوا هذه المُفردة 

عبد الكريم النّاعم

مدينة حمص، كغيرها من المدن السوريّة القديمة، كان فيها الكثير من الأبنية الأثريّة التي لا تُقدّر بثمن، من أسواق، قديمة كما هو الحال في السوق (المقبي) وما جاوره، ولم ينجُ هذا السوق من جشع الذين لا تُشبع أعينهم إلاّ حفنة من تراب، إلاّ بتمسّك المدافعين عن القيمة الأثريّة، بمدلولاتها الفنيّة، وبما فيها من ذاكرة هي جزء أساس في التعرّف على مَن سبقونا، بعاداتهم، وبرؤيتهم الفنيّة، وهذا كلّه يشكّل أساساً في الذاكرة الشعبيّة، التي تتعرّض في أزمنتنا هذه إلى هجمة استعماريّة خطيرة، هدفها مسح الذاكرة التراثيّة، وإلغاؤها، ليس في الوطن العربيّ وحده، المُستهدَف منذ ما يزيد عن مئة سنة، بل ثمّة استهداف يشمل بلاد الشرق، بهويّته العربيّة الإسلامية، ليُغيّر ملامحها، اجتثاثاً، وبذلك تصبح هذه المنطقة كالنباتات التي لا تضرب عميقا، يسهل اقتلاعها، وليُعيد صياغتها على مثال صورة أمريكا على المُنبتّة الجذور، والتي أقامت وجودها على حساب استئصال شعب كامل، هو الهنود الحمر، متساندة حديثا، مع والمؤسّسات الصهيونية، الماسونيّة في إنجاز ذلك، لِما بينهما من وحدة في الهدف، ولم يعد هذا القول تنجيماً، أو تكهّناً، بل هو موجود في العديد من الوثائق التي أصبحت بين أيدي الناس.

أعود إلى حمص، لقد كان في حمص أحياء قديمة ككل المدن العريقة، ولكنّ بعضها أزيل بالكامل كـ”حيّ الأربعين”، وكان ثمّة من يُفكّر بإزالة المزيد، قبل اندلاع الحريق الصهيوأمريكي عام 2011 الذي أتى على الكثير من تلك الآثار، حتى لكأنّ الخطّة كانت مرسومة ليشمل الحريق والخراب البيوت والنّاس معا، ولن يُعفي المتهاونين، والجشعين أنّهم لم يمونوا في يوم من الأيام مع ذلك الخراب المؤمرَك، إذْ الاعتبار بالنتائج، لا بالنّوايا.

في ثمانينيات القرن الماضي، وما قبله بقليل، اختفت “السيباطات” الأثريّة التي كانت تُعدّ بالعشرات في حمص، ولم يبق منها إلاّ سيباطان أو ثلاثة، كانت في المنطقة الشرقيّة من المدينة حيث تمركز المسلّحون، وما أدري ما الذي بقي منها حتى الآن. لم تنتصف ثمانينيات القرن العشرين حتى لم يبق في حمص إلاّ “مفردات آثاريّة”، ولولا هبّة صادقة من مكتب الإعداد الحزبي، متعاوناً مع  بعض فعاليّات حمص المتعدّدة لَأُلحقت بما هُدم من قبل.

الآن ثمّة مبنى أثريّ مسجّل لدى دائرة الآثار والمتاحف بالقرار الوزاري 688/تاريخ 23/9/2004، ورقم العقار 981/1 في شارع الدروبي، وهو معلَم متميّز تاريخيّاً وأثريّا، في موقعه، وفي طريقة بنائه، وموادها، وقِدمها، ويشكّل مفردة آثاريّة في ذاكرة مدينة حمص، هذا البناء مهدّد بأن يختفي، ليُشاد في مكانه بناء بُرجي، وهو ما جرى في قسم مجاور له، وكان يشكّل وإياه كتلة بنائيّة آثاريّة مميَّزة، والذي يثير القلق المشروع، بل الخوف.

الأمر الآن بين يدي محكمة القضاء الإداري بدمشق، إذ بتاريخ 22/9/2019، أُقيمت دعوى لإعادة توصيف البناء، ورفع الصفة الآثاريّة عنه، ليُصار إلى هدمه، وإشادة بناء بُرجي لاهويّة له إلاّ هوية الربح والمُتاجرة، والدعوى مقامة ضدّ المديرية العامة للآثار والمتاحف، وثمّة تخوّف كبير من أن  تكون قُدرة صاحب المال أقوى من أيّة قوّة أخرى،!!

الأمر يمكن استدراكه الآن بالتشبّث بتوصيف دائرة الآثار والمتاحف بالقرار الذي ذكرنا رقمه وتاريخه آنفا، أفلا يكفي ما لحق بهذا البلد من خراب وتخريب، لاسيّما في المناطق والمواقع الأثريّة؟!! هل نسينا استهداف التكفيريّين ومشغّليهم لتدمر، وما لحق بصيدنايا، وبعدد من المواقع الأثريّة؟!!

إنّ التساهل في تدمير المواقع الأثريّة هو موافقة على تدمير الشخصيّة التي يُفترَض أن نعمل على بنائها لدى أجيالنا التي شوّشت الحرب عقول الكثيرين منهم، ويستمرّ التشويش المُبرمَج عبر الفضائيات المتعدّدة للوصول إلى تدمير الذات العربيّة الاسلاميّة، وما الذي يبقى صامداً بعد تدمير الذات؟!!

الموضوع مطروح على كلّ الجهات ذات الصلة، ونأمل ألاّ يأتي ذلك اليوم الذي تهدر فيه جرارات الهدم، ويزول هذا الأثر المعماري…

aaalnaem@gmail.com