دراساتصحيفة البعث

اليوم العالمي للغة العربية

د.معن منيف سليمان

اعتمدت الأمم المتحدة في إطار دعم وتعزيز تعدد اللغات وتعدد الثقافات، قراراً للاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة. و تقرر الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول، كونه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة 3190 (د-28)  المؤرخ 18 كانون الأول 1973 والذي قررت الجمعية العامة بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. ويتمثل الغرض من هذا اليوم بزيادة الوعي بتاريخ كل من اللغات الرسمية الست وثقافتها وتطورها. ولكل لغة من هذه اللغات الحرية في اختيار الأسلوب الذي تجده مناسباً في إعداد برنامج أنشطة لليوم الخاص بها، بما في ذلك دعوة شعراء وكتاب وأدباء معروفين، إضافة إلى تطوير مواد إعلامية متعلقة بالمناسبة.

جاء إعلان الأمم المتحدة عن تخصيص يوم عالمي للغة العربية كجزء من مبادرة أطلقتها المنظمة الدولية للاحتفال بالتعدد اللغوي والتنوع الثقافي، وكذلك لترويج المساواة في استخدام لغات العالم الست الرسمية في الأمم المتحدة، وإلى جانب الاحتفاء باللغة العربية أعلنت الأمم المتحدة عن الاحتفاء بأيام للغات الفرنسية (20 آذار)، والإنكليزية (23 نيسان)، والروسية (6 حزيران)) والإسبانية 12 تشرين الأول). وتسعى مثل هذه المبادرة  إلى زيادة الوعي والاحترام لتاريخ وثقافة ومنجزات كل من هذه اللغات، في إطار الاحتفاء باليوم العالمي للغة الأم الذي يتم الاحتفال به سنوياً يوم 21 شباط.

تكتسي ظاهرة التعدد اللغوي أهمية قصوى في الاتصال المتناسق بين الشعوب بالنسبة ‏لمنظمة الأمم المتحدة، فالتعدد إذ يشجع على التسامح، فإنه يكفل أيضاً مشاركة فعالة ومتزايدة للجميع في ‏سير عمل المنظمة، وكذلك فعالية أكبر ونتائج أفضل ومشاركة أكبر. استرعى التوازن بين اللغات الرسمية الست، الانكليزية والعربية والصينية والإسبانية والفرنسية ‏والروسية اهتمام الأمم المتحدة. ‏واتُّخذت عدة إجراءات، منذ عام 1946 إلى يومنا هذا، لتعزيز استعمال اللغات الرسمية حتى تكون الأمم ‏المتحدة وأهدافها وأعمالها مفهومة لدى شعوب العالم على أوسع نطاق ممكن.

واللغة العربية من أكثر لغات العالم متحدثين، وإحدى أكثرها انتشاراً، نطق بها الناس منذ القدم. فقد سادت في الوطن العربي لغة عربية واحدة منذ فجر التاريخ، وإن تعدّدت لهجاتها. ففي الألف الأول قبل الميلاد غطت الإمبراطورية العربية الكبرى لهجة واحدة هي اللهجة السورية الآرامية (العربية القديمة). وقد تطورت اللهجة الآرامية إلى اللغة العربية الحديثة التي ورثت الماضي الثقافي المصري والسوري.

في وقتنا الحاضر يتحدث باللغة العربية أكثر من 422 مليون نسمة ويتوزع متحدثوها في الوطن العربي، إضافة إلى العديد من مناطق العالم الأخرى.  وهي مرجع لـملايين العرب ومرجع اعتباري لنحو مليار مسلم، وبوصفها أقدم لغة في العالم ما زالت حية حتى يومنا، في وقت تتجه بعض اللغات في العالم نحو التناقص، فالعربية من اللغات القادرة على الحضور العالمي ولا يمكن لأحد أن ينكر التطور الذي شهدته، أو ينكر انتشارها الواسع وتداولها الكبير في الإعلام والاقتصاد والسياسة والتعليم.

واللغة العربية وثيقة الصلة بالإسلام، كما هي أيضاً لغة شعائرية رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، وقد أثّر ذلك في ارتفاع مكانة اللغة العربية، فأصبحت لغة السياسة والعلم والأدب لقرون طويلة ، وأثرت العربية، تأثيراً مباشراً أو غير مباشر على كثير من اللغات الأخرى في العالم، كالتركية والفارسية والأوردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الإفريقية الأخرى مثل الهاوسا والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية وخاصةً المتوسطية منها كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية. كما أنها تدرس بشكل رسمي أو غير رسمي في الدول المحاذية للوطن العربي.

لقد جاء تخصيص يوما عالميا للاحتفاء باللغة العربية في الأمم المتحدة تأكيداً على دور العرب على الصعيد الدولي، وتقديراً من الأمم المتحدة لأهمية هذه اللغة ودورها في الحضارة الإنسانية جمعاء، وهذا ما يجعل اللغة العربية في حراك متواصل، وفي حوارٍ خلاّق من أجل التفاعل المستمر. واللغة العربية لغة قويّة يمكنها أن تصبح أكثر وظيفية وعالميّة، ويتوقف هذا على إنصافها، من خلال تمكينها في محيطها وتعميمها، ودعم دورها في التربية والتعليم والإعداد والتكوين، من خلال إقامة برامج وسياسات لغوية فاعلة، من شأنها ترسيخها، والتصدي لكل محاولات طمس وظيفتها وإلغاء دورها.

إن التطور المعرفي والمعلوماتي والتقني، يتطلب انتشار العربية وتداولها وتمكينها في محيطها، وضرورة العمل على تطوير أدائها، وتعزيز مكانتها، وبناء على ذلك لابدّ من استثمار المؤهلات الذاتية والموضوعية للغة العربية، وكل الأبعاد الفاعلة فيها، واستثمار مؤهلاتها، حيث أن اللغات تستمدّ وجودها الفعلي من المتكلمين بها، وبفكرهم وبهويتهم، وبوزن هذه اللغة الاقتصادي، أو بجاذبيتها المعرفية المرنة. وهذا ما يدحض مزاعم أن اللغة العربية تعاني مخاطر الذوبان والاضمحلال والتراجع في ظل عصر العولمة.

إن النهوض باللغة العربية وتحديثها عبر الاستخدام في التواصل الحضاري والمعرفي والإعلامي، وعبر التدريس والبحث العلمي، هو من أهم عناصر النهضة العربية.