ثقافةصحيفة البعث

ما المُثقف؟

كثيرا ما نسمع بكلمة “مثقف”، وأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، لأنك عندما تراه، فإنك تراه فقط، أي أنك بعد أن تشاهده وتصافحه، لا تحصل منه على شيء آخر! تسمع دائما بالمثقفين كتسمية لمجموعة من الناس تمتلك صفات محددة، ولكنهم فرادى، ليست لهم صفات، ليس لأنهم جواهر منزهة عن التوصيف، بل لأنهم يجب النظر إليهم على أنهم أصحاب مهنة، فإذا كان الخبّاز مولعا بالأدب، يبقى خبازا، وإذا كان المحاسب رساما، يبقى محاسبا، ولكن المثقف لا يشتغل إلا الأدب والفن، إلا أنه لا يعترف أنها مهنة يعيش منها، ويُفضل أن تهيم على صورته، الضبابية الحالمة و”اللازوردية”، وهنا يقع الالتباس، لأنه عندما يرى أن “التثاقف”، ليس مهنة و”أكل عيش”، يعني أنه يعترف أنه عاطل عن العمل، أو “عاطل عن الوردة”، كما يقول أحد الشعراء، فكيف يعيش؟ هناك احتمالان أمامه: إما “فاعل خير”، من الأهل والأقارب والعشيرة، أو “مغدور” ما، بنتاجه الذي لا يرضى عنه مقابلا ماديا، فالفن والفكر ليسا للبيع، ولكن بطريقة مواربة، يحصل على دعم بذكائه من هنا، أو تشجيع على رهافته من هناك، وهكذا يواصل المثقف حياته، ليس بـ”التركيب الضوئي” كما يعتقد البعض عنه.

بالتأكيد لا يضير المثقف أن يقول إنه يعيش من الاشتغال بالثقافة، ولكنه عندها يحتاج إلى تحقيق شرط بسيط، وهو أن يكون مثقفا بالفعل، وليس ادعاء! لأن السؤال الذي يُطرح على واحدهم هو: كيف أصبحت مثقفا؟ ماذا فعلت؟ ثم يبدو أن الأمر قد حدث بقرار شخصي، وقف أمام المرآة، ونظر إلى نفسه، وقال: لا بد أن يكون صاحب هذه “السحنة” مثقفاً، وتم الأمر. ولكن بعد أن أعلن أنه مثقف، اكتشف أن هناك أمرا واحدا ينقصه، وهو الثقافة! لأن المثقف بلا ثقافة، هو قبطان بلا سفينة وبحر، ومحارب بلا سلاح، و”تشايكوفسكي”، بدون “بحيرة البجع”، ومولع بالحمام من غير ولا ريشة. لكن حل المشكلة بالنسبة إليه سهل، فالآن يبدأ كمثقف في حياته المهنية الغامضة، ومع الأيام تأتي الثقافة، إنه ليس مستعجلا، وريثما تأتي يشتغل على نفسه بانتظارها، لكن إذا جاءت، تجده بأبهى حلّة، فيبدأ بتغيير هندامه، “بنطلون” جينز من ذلك النوع، الذي من الصعب تحديد إذا كان ب 3 أو 100 دولار حسب أسعار صرف العملة الخضراء، ومعطف أو سترة، وقبعة تختفي وتظهر لأسباب مجهولة، غير متعلقة بالطقس، وحقيبة ربما هو لا يعلم ماذا فيها، قد يكون من ضمن كنوزها، كتاب إهداء من روائي، ملأ الصفحة الأولى بالكلام عن الصداقة، التي لا تبلى، والود الأخوي الذي لا يفنى، مع أنه ربما يراه للمرة الأولى، وربما الأخيرة، ربما أيضا فيها الكثير من الأقلام وجميعها لا يُحسن الكتابة، وإذا حدث ذلك، فلا تُحسن أن تكتب جيدا.

بعد الحقيبة، يأتي “المعطف”، وقد بدأ ينحسر من مقهى الروضة والكمال في السنوات الأخيرة، فالوبر والألوان الداكنة، بعيدة عن أجواء “الدان تاون”، و”جوليا دومنا”، هناك يجب أن تكون الملابس أكثر إشراقا وعصرية، بطريقة تتفق مع الديكورات الحداثوية، والواجهات الزجاجية، وواجهات السيارات بطبيعة الحال، ولكن الحقيبة لم تزل موجودة، لأنها من أهم الثوابت لديه، وهو يواكب كل التغييرات والمستجدات على الساحة، ولذلك أصبحت حقيبة “لاب توب”، وبالتأكيد لن يفوته أن يُغير “فيميه” نظارته –في حال أبقى عليها- حسب اللون الرائج، وأن تبقى الصحف مطوية أمامه حيث يجلس، بينما السيجارة متدلية من شفتيه، خلال “نقه” الذي لا ينتهي عن العدمية والعبث واللاجدوى، وعن معاناته أيضا من همجية الشعوب. وأثناء ذلك فإنه لا يتوانى عن تقديم، المهام الجليلة، فيظهر اسمه “دراماتورج” على “بروشور” لعرض مسرحي طائر، أو مقصوص الأجنحة، أو كاتب لا يُشق له غبار، شاعر، قاص، روائي، ناقد، فنان وغيره.

اليوم صار بالإمكان تأليف كُتيب أو كتاب، من مثل ذاك الذي يحمل عنوانا كالآتي: “كيف تُصبح عازف عود في أسبوع”، أو كيف تُصبح شاعرا في عشر دقائق”، وربما صدّر بالفعل هذا الكتاب، وها هو بكامل قيافته، يقف على رفوف المكتبات، مزهوا بالعنوان الشامل الذي يحمله “كيف تصبح مثقفا؟”، أما بالنسبة للزمن، فهذا يعود لنشاط من يريد أن يُصبح مثقفا، في قراءته للكتاب، ربما أنهاه في 3 ساعات، وربما في يوم وربما لا زال مفتونا بالعنوان دون أن يخوض فيما يليه!

تمّام علي بركات