ثقافةصحيفة البعث

قمر كيلاني.. كاتبة طليعية تمردت على الأعراف

 

حين تحدثت الكاتبة لينا كيلاني عن والدتها الكاتبة قمر كيلاني في الندوة التي أقيمت مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة اختارت بعضاً من أقوالها، منها ما هو لها ومنها ما هو للوطن ومنها ما هو لدمشق: “دمشقُ مدينتي، ملكتي، بيني وبينها ألف عام من الحب والحزن والمطر.. دمشق وأنا أكاد أخطف حرف الواو الذي يفصل بيني وبينها، فهي التي سكنت فيَّ ولم أسكن فيها.. يا دمشق يا حبيبتي الغافية على أمجادك يا من كنتِ نبع الحضارات.. يقولون عني إنني الشامية فيقصدون الدمشقية وأنا أمتلئ زهواً وخيلاء وكأنني من شقائق النعمان بن ماء السماء.. يكون الحب لبشر كما يكون الحب لمكان أو زمان، فكيف إذا اجتمع كل ذلك في مدينة يختصرها تاريخي في دمشق.. أيا دمشق يا جوهرة المدن وتاج التاريخ، من يستطيع أن يخترق قداستك؟ أن يعتدي على بهائك؟ أموت ولا أراك تنزلين عن عرشك”.

الذكرى لا تموت
وبينت لينا أنه وبعد غيابٍ أصبح من الأعوام ثمانية لرحيل قمرها لم يبقَ لها منها سوى كلمة وصورة وذكرى، أما الكلمة فهي التي تركتها لها كما لغيرها فوق صفحات ناصعة البياض، منها الأعمال الأدبية الكاملة والمكتملة بصدور جزئها الرابع، أما الصورة فهي محفوظة في القلب، وأما الذكرى فهي التي لا تموت، مرددة ما كانت تخطه وتقوله قمر كيلاني عن الوطن: “الوطن ليس وساماً يُعلق على الصدور، بل دم يتفجر من نزيف القلب.. والوطن ليس مفتاحَ بيت وعنوان بريد وشباك هوية والوطن لا يُسَجَّل بقرار ولا يُمحى بقرار.. ما أتعس الناس الذين يحاولون أن يخرجوا من جلودهم، أما أنا فجلدي العربي لاصق نسيجه بلحمي ودمي، ضارب بأعصابه حتى العظم .

مناجم غير مكتشفة
ومن خلال مجموعات قمر كيلاني القصصية “عالم بلا حدود وقصص أُخرى، الصيادون ولعبة الموت، اعترافات امرأة صغيرة، امرأة من خزف، حلم على جدران السجون، المحطة” والتي صدرت في مجلد خاص ضمن أعمالها الكاملة عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2014 أوضح الكاتب ناظم مهنا أن منظومة السرد الروائية والقصصية والفكرية عندها منظومة حديثة بما تعنيه الحداثة من رؤية جديدة تغييرية للواقع وللفن والفكر، وهي التي كانت كاتبة طليعية متمردة على الأشكال والأعراف والتقاليد بالشكل وبالمحتوى، وتجلى ذلك في رؤيتها وفي لغتها وفي فهمها المُتَقَدِّم للسرد القصصي باعتماد لغة إخبارية جديدة خالية من الزخرفة والتزيين البلاغي والبياني، ومن اللفظية الإنشائية التي سادت بدايات القصة العربية وواقعية خالية من الرومنتيكية التي أرّخت بظلالها على الكُتّاب العرب شعراء ونثريين قبل مرحلة كيلاني، وهي معتمدة التكثيف والاقتصاد اللغوي والجملة القصيرة، وكل ذلك بوضوح وصياغة متينة وتحكّم بارع بفن القص الجديد، وهذه المنظومة الجديدة برأي مهنا كانت تستمد قوتها من المخزون المعرفي التراثي والمعاصر ومن التجربة الحياتية ومن فهم قمر الأخلاقي والفلسفي المعاصر للواقع وقد تجلى ذلك بوعي في مجمل كتاباتها لتكون مثل معاصريها من الطليعيين في البلاد العربية والعالم، موضحاً أنه في قصص كيلاني وجدت كل التيارات الفكرية الحديثة والمعاصرة “الوجودية، الماركسية، التحليل النفسي، النظرة التغييرية للواقع” والفهمً الجديد للأسطورة والرمز حيث كل شيء يوظف لصالح الواقع الاجتماعي والنظرة التقدمية له، وكل ذلك جعل عالم قمر الكاتبة غنياً ومازال فيه مناجم غير مكتشفة، مؤكداً مهنا أن ما يُسجل للأدبية كيلاني أيضاً احتفاؤها بالطاقات الجديدة الرافدة والمنشطة للحياة الثقافية في بلادها، فكان أبطال معظم قصصها من سكّان القرى الفقراء الشباب الذين رأت فيهم دماء جدية تضخ في نسغ الأمة الصاعدة.. كما كان لمهنا وقفة مع قصة “عالم بلا حدود” كنموذج لما قدمته كيلاني في مجال القصة وهي من القصص الأولى المؤرخة عام 1965 .

شمعة مضيئة وستبقى
أما الشاعر بديع صقور فتحدث عن تلك السيدة الرائعة والكاتبة والمبدعة التي اعتادت أن تمد يدها لجيل الشباب الذين كانوا يبحثون عن مكان ينشرون فيه نتاجهم الأدبي، ففي اتحاد الكتّاب العرب التقى بتلك السيدة البهية التي لا تفارقها ابتسامتها وكيف أدهشته في المرة الأولى الحميمية التي كانت تعامل بها من كان يطرق بابها، ورغم سفر صقور خارج سورية لسنوات عديدة في السبعينيات إلا أن قمر كيلاني كانت أول من التقاها ثانية بعد عودته، مؤكداً أنه ومهما كان يبتعد لا يجد نفسه حينما يعود إلا وقد قصد مكتبها، مشيراً صقور إلى أن علاقته ترسخت بكيلاني وكانت من أقرب الأصدقاء إليه.

الحب الإلهي
وتطرق الكاتب المسرحي سمير المطرود في مشاركته إلى رسالة قمر كيلاني الجامعية “التصوف” التي أضافت عليها ونشرتها ككتاب بدار شعر، مشيراً إلى أنها اعتبرت التصوف النفحة العُلوية التي يشرق فيها الإله في قلوب عباده الصالحين الذين تخلصت أرواحهم من شوائب المادة وتعالت نفوسهم وسمت عن كل ما يصل المرء بهذا العالم الحيواني، لتقول أن التصوف هو الحلقة التي يرتبط فيها المرء بخالقه وتفتح أمام عينيه آيات الحق والخير والجمال، مبيناً أن كيلاني كانت ترى أنه لولا تلك النفحات الصادقة التي تستقيها الإنسانية من الصوفية لطغت المادة على جوهر الحياة، ولهذا كانت تؤكد أن التصوف هو نبراس لأنه سيظل متقداً ما دامت هناك روحانية وما دام هناك شعراء يهتفون بالحب الإلهي، وبيّن أنها تذهب في كتابها إلى تعريف التصوف على أنه حركة عامة واسعة عرفها العالم من أقصاه إلى أقصاه، منوهاً إلى أنها تحدثت في كتابها عن الفرق بين التصوف والزهد .
وختم مدير الندوة الكاتب أيمن الحسن بالإشارة إلى الأثر العميق الذي تركته كيلاني من خلال كتاباتها ومواقفها، مؤكداً أن القيمة الحقيقية لأي أديب تكمن في أن يقرأ نقدياً ويوضع في زمنه وبين أبناء جيله، وأن قمر كيلاني قامة سورية مهمة أعطت الكثير، سارداً سيرة حياتها وأهم ما خطته بقلمها في عالم الأدب والثقافة .

أمينة عباس