تحقيقاتصحيفة البعث

حاضنة حلب للحرف التراثية في طريقها إلى التأسيس والانطلاق حمايـــــة الإنتــــاج التراثــــي والحضــــاري ضـــرورة وطنيـــة وإنســـانية

 

حلب إحدى أقدم المدن المأهولة في التاريخ، والعاصمة الاقتصادية، وكما هو معروف فإن حلب تتبوأ مكانة الصدارة تاريخياً وحضارياً ومعمارياً، وكذلك في مجال الصناعة، والتجارة، والزراعة، وفي غابر الزمان كانت حلب مقراً ومقصداً تتدفق عليها القوافل التجارية التي كانت تجوب مشارق الأرض ومغاربها ناقلة البضائع والمنتجات، لاسيما الأقمشة والتوابل في ذلك الطريق الشهير الذي يطلق عليه طريق الحرير، وفي مضمار الحرف التراثية واليدوية تحتل حلب بلا منازع المرتبة الأولى في الإبداع والتميز والتشكيل بأياد ماهرة، وذلك انطلاقاً من أن هذه الحرف ليست قائمة بذاتها، وإنما هي امتداد لذاكرة الحضارة والإنسان، وشكل الحياة وتطوراتها وفق تعاقب المراحل التاريخية.

بين رأيين
في الواقع الراهن تتأرجح الحرف التراثية والمهن اليدوية التقليدية بين منزلتين، فثمة من يعتبر هذا النوع من الحرف تقليدياً وقديماً وعديم الفائدة ولا جدوى منه، وهو جزء من ركام الماضي وذاكرته ليس إلا، ومصيره إلى انقراض، وهناك من يتشدد لضرورة الحفاظ على هذا الموروث الشعبي، وإعادة إنتاج حياة الأجداد لتكون منطلقاً في مواجهة تحديات الحاضر، ومتطلبات المستقبل، فهذا الإرث يمثّل جزءاً من الهوية.

ومضات من الماضي
كان الحرفيون الحلبيون، قبل الحرب الإرهابية الشاملة، حيث استباح الإرهاب أجزاء واسعة من أحياء حلب القديمة، قد قطعوا أشواطاً طويلة في مختلف الحرف التراثية، واشتهر في هذا السياق ما كان يعرف بـ “سوق المهن اليدوية” الذي يعتبر من أبرز المعالم التاريخية والعمرانية والسياحية في حلب، ويقع أمام الباب الرئيسي للقلعة، وهو عبارة عن خان أثري قديم يعرف بـ “خان الشونة”، وكان من أهم مقاصد الزوار والسياح للتعرف عليه، والتمتع برؤية طرازه المعماري، وكذلك الاطلاع على طرق إبداع القطع الحرفية وشرائها لما لها من قيم ومعان كبيرة في حفظ عراقة التراث الحلبي وأصالته، ومن هذه المهن، على سبيل المثال لا الحصر، حرفة الطرق على النحاس، وتشكيل وصناعة مختلف أنواع النحاسيات التي تحتوي على الرسوم والنقوش والزخرفات العربية والإسلامية، ومن أهمها “قطع الزينة، والقطع المنزلية كالسيوف العربية، والمزهريات، والصحون، والكاسات، والأباريق”، وحرفة التجنيد العربي التي تضم “صنع وخياطة اللحف والوسادات والفرش” بطريقتها اليدوية القديمة، وحرفة خياطة الأزياء الشعبية الحلبية، وحرفة صناعة الدمى الخشبية والأيقونات، لكن الحرب دمرت معظم الورش الحرفية وبعثرتها، وأدت إلى تراجع واسع في هذا المجال.

ماذا عن حاضنة حلب؟
اليوم، وبعد دحر العصابات الإرهابية، والدخول في طور التعافي المتدرج، تتوجه الأنظار إلى إعادة إحياء وإعمار المهن الحرفية، وخاصة التراثية منها، لدورها كحافظة لمسيرة الحياة السورية من الأجداد إلى الآباء والأبناء، ولتعميق الرؤية، التقت “البعث” بكور فرح رئيس اتحاد الحرفيين في حلب الذي أكد أن التوجه العام في سورية يصب باتجاه بناء مشروع وطني شامل ومتكامل لجهة إحياء التراث الحرفي السوري العام، وتعميق وتكريس التراث المحلي للحرف بكل محافظة من المحافظات، والحفاظ عليه وتأصيله وضمان استمراريته، وترجمة لهذا التوجه، أكدت الحكومة للاتحادات الحرفية دعمها للتراث الحرفي السوري، والاهتمام بواقع الحرفيين والحرف اليدوية والتراثية، والانطلاق بخطوات عملية، وكانت دمشق سبّاقة في هذا الإطار من خلال حاضنة دمر المركزية للحرف التراثية التي تعتبر أول مشروع تنموي متكامل يحافظ على الموروث الشعبي والتراثي ويضمن استمراريته، وتتألف هذه الحاضنة من أكاديمية الأسد للفنون الحرفية التابعة للقيادة المركزية للحزب، فضلاً عن مشاغل للحرفيين، ودور مزادات، ومركز ثقافي، وصالة معارض، ومركز تجاري مهمته الترويج والتسويق للمنتج الحرفي في الأسواق المحلية والخارجية، وكذلك مركز أبحاث حرفي متطور مهمته تطوير ابتكارات وإبداعات الحرفيين من خلال الدمج مع البرامج والعلوم الحديثة.
وأضاف فرح: بناء على التوجهات الحكومية، وانطلاقاً من أن الحرف التراثية هي تاريخنا وحضارتنا ومستقبلنا، يتم العمل حالياً على تأسيس حاضنة حلب للحرف التراثية والمهن اليدوية والتقليدية، حيث جرت الدراسات اللازمة، وتم تحديد الجدوى الاقتصادية والاستثمارية، وإرسالها إلى الاتحاد العام، واستكمالاً لذلك عقد اجتماع في مقر فرع الحزب، بحضور لجنة من دمشق بهدف تأسيس نواة واضحة للعمل، حيث تم تشكيل مجلس مركزي للحرف التراثية، وتعزيز دور ومهمة شيوخ الكار في عملية التدريب والتأهيل، كلاً حسب حرفته ومهنته، وذلك من أجل إحياء هذه الحرف وحمايتها ومنعها من الضياع والنسيان.
وفي سياق الخطوات العملية، تم اقتراح ثلاثة مواقع لإقامة حاضنة للحرف التراثية والمهن اليدوية والتقليدية، وهي: سوق الهال القديم، وخان الشونة، وكنيسة الشيبنة، وحين اختيار أحدها يتحقق الهدف من الحاضنة، وهو إعادة تجميع هذه الحرف وإحياؤها وحمايتها، وخاصة المهددة بالزوال منها، مثل حرفة النول العربي القديم، وكذلك توفير المستلزمات والإمكانيات لشيوخ الكار والحرفيين ضمن مكان واحد، وتعزيز عملية التدريب والتأهيل من خلال الإعلان عن دورات تدريبية متواصلة ومأجورة يستفيد منها الباحثون عن عمل، حيث تزخر حلب بأكثر من 27 حرفة، منها: “البروكار، الحرير، الطرق على النحاس، الجلديات والأحذية، الخط العربي، الحفر على الزجاج”.. إلخ، وفي خطوة لاحقة ومتطورة، سيكون هناك سعي لاستثمار هذا الموروث المهم والكبير الذي تشتهر به سورية من خلال إنتاج قطع حرفية متقنة من مختلف الحضارات والإرث الشعبي العريق من الحقب الماضية لجهة إعادة إحياء الهوية السورية، كما هو حال القطع الحرفية لحضارة بلاد الرافدين، أو الحضارة الفرعونية، وحضارة بلاد الشام.

ضرورة التوثيق
يطرح المتخصصون بالتراث فكرة تأسيس سجل وطني شامل لتوثيق التراث السوري وحفظه وحمايته، حيث يحصل المنتج على رقم وتاريخ وتوصيف ومعايير جودة وعلامات تكوين.. إلخ، وبذلك يصبح بإمكان الحرفي عرض ما ينتج من قطع حرفية تراثية بأي مزاد داخلي أو خارجي دون الحاجة لوسيط أجنبي بعد أن يكون قد حصل على صك ملكية وتأمين ويسجل باسم الحرفي، ومن جهة ثانية، يعود بالفائدة على الخزينة العامة من خلال رسوم التسجيل والتوثيق، كما يستفيد الحرفي من خلال سعي المستثمرين للتعاقد معه على إنتاج قطع تراثية ذات طبيعة سورية ومسجلة في السجل، مع ضرورة التنويه أنه بعد مضي 200 عام على صنع القطعة تصبح أثرية، وهذا يعطيها قيمة مضافة، وبالتالي يتضاعف مردودها المادي والمعنوي، وفي الشأن القانوني والتشريعي يتم العمل والتنسيق لاستصدار صك تشريعي ينظم ويقونن العمل التراثي والحضاري، وهو مشروع مرسوم إحداث مكتب التراث الوطني الحرفي الذي من المتوقع صدوره قريباً.

إضاءة
من المهن التي تبدع بها مدينة حلب صابون الغار المصنوع من زيت الزيتون كتكوين أساسي، ويعود تاريخ صناعته في حلب إلى ما قبل 2000 عام قبل الميلاد، ولم تتطور طريقة صناعة الصابون بشكل كبير منذ ذلك الحين حتى الآن، حيث حافظت على طريقة الإنتاج اليدوية والتقليدية، مع وجود بعض التطورات البسيطة.
وعن حرفة الأحذية التراثية واليدوية، بيّن سامر ولايا، شيخ كار بهذه المهنة المتناقلة عبر الأجيال التي كانت تعرف في بدايتها بـ “الصرماية الحمراء”، أنه قديماً لم تكن هناك فردة يمين، وأخرى شمال، بل مثل بعضهما، ومن ثم دخلت المهنة طور شكل القالب والنمرة والموديلات، والأحذية الطبيعية المصنوعة من جلود الأبقار والغنم والماعز، ودعا ولايا إلى مزيد من دعم وتشجيع الحرف التراثية، وتوفير البنية التحتية، ومستلزمات العمل، وإقامة الدورات التعليمية، والمعارض المحلية والخارجية، وامتلاك ثقافة التسويق، وتنشيط الواقع السياحي، وعكس حضارة سورية وهويتها من خلال ما أنتجته الحياة السورية من تراث، وحضارة، وقيم.

أيهم ناعسة