ثقافةصحيفة البعث

حبة عند اللزوم

ندى محمود القيم
بعد أن أفرغ حبتين من المهدئ، قرأ هذه العبارة المكتوبة فوق علبة الدواء “حبة عند اللزوم”. ضحك في سره فتعريف وقت اللزوم أصبح أمرا يبعث على السخرية لأنه تجاوز الحالات الطبية وتعمم على كل شيء تقريبا.. الماء والغذاء والمحروقات وبعض الضروريات اليومية كلها عند اللزوم ولا يمكنك الحصول عليها دائما.
بلع ما يلزمه حاليا مع كأس من الماء بصعوبة، واستلقى على الأريكة ينتظر أن يحل الماء حبتي المهدئ في جسده، وتخيل أنه وبغضون بضع دقائق سترتاح سيالته العصبية وتبدأ كهرباء دماغه بضخ السعادة والاسترخاء والنشوة. ارتاح خاطره لهذا التخيل، وراح يرى القلق والتوتر أمامه يجران الخيبة ويرحلان بعيدا عن جسده. أخذ يحلم بساعات متواصلة من النوم الهادئ لن يعكر صفوه شيء، مجرد التخيل بعث في نفسه راحة لذيذة.
إلا أن انتظاره طال، ومضت ساعة كاملة وهو كالواقف في حلبة السباق ينتظر صفارة البدء، ما من شيء تغير في جسده، بل علي العكس ازداد توتره، أيعقل أن الكهرباء في دماغه مقطوعة أيضا ولم يصلها التنبيه؟ أم أن الماء مغشوش ولم تذب فيه حبتي الدواء؟ حوقل مرتين بغضب وقام من مكانه على الفور باتجاه علبة الدواء للتحقيق معها. وضعها أمامه وبدأ يقلبها حتى وجد تاريخ الصنع، إنها صالحة لعامين مقبلين. راح بنظره إلى الشركة المصنعة، لقد كانت الاسم الأول في سوق الصناعات الدوائية المحلية، فإذاً العلة بالعليل ذات عينه.
كانت الساعة تميل بخصرها إلى الرابعة صباحا، ونشاطه يأخذ بالازدياد خلافا لكل التخيلات التي رسمها في باله المشغول، شعر بقشعريرة تسري في عروقه، المدفأة تلفظ أنفاسها الأخيرة، رأسها المعبأ بالمازوت بدأ ينفذ، إنها كل ما يملك من ثروته النفطية لأن الكهربائية منها ذهبت إلى غير رجعة بعد أن انفجر خزان الحي مساء الأمس إثر الضغط وزيادة الاستهلاك في أوقات الإنارة.
أشعل المذياع لعل أم كلثوم تسعفه بمقطع من أغنية ما وتعيد إليه هدوءه المسلوب منذ سنوات طويلة، لكن صوتا بشريا – على الأغلب – صدح بموال لازمته الآخ، وآخ من الساعة التي فكر فيها بهذا الحل، يبدو أن “الست ثومة” لن تقوم من رقادها لأجل عينيه، هو المغلوب على أمره، القلِق الذي هرب النوم منه إلى مواطن مرتاح وسعيد في كوكب آخر.
على ما يبدو انشغاله بكل ما سبق صرف من طاقته وحريراته حتى بدأت أمعاؤه تنادي عليه. فتح باب البراد فلم يجد إلا لبنا مخترا منذ ثلاثة أيام، تجرع كأس الندامى منه وعاد إلى تلك الأريكة التي كان يحلم قبل قليل عليها، وجدها باردة مكفهرة لا تطيق حمله وحمل همومه، لكنه لم يأبه، رمى بثقله كله دفعة واحدة ونام وهو يقاتل الذباب الملتجئ إلى صالونه بعد أن عصفت الدنيا في الخارج.
صباح اليوم التالي كان أول ما فعله أن ذهب بعلبة الدواء إلى جاره الصيدلاني الذي نصحه بها بعد شكوى منه، يتوعد بإرجاعها لأنها عديمة الأخلاق والفائدة، لكن اليوم خميس وغدا جمعة، وعليه فإن الصيدلية لن تفتح أبوابها حتى يوم السبت، يوم مناوبته في العمل.
كانت ورشة أعطال الكهرباء في الحي وعلى ما يبدو تم إصلاح الخزان المنفجر، وبينما يهمّ بالدخول إلى البناية، لمح لافتة تعلق وسط الحي وقد كتب عليها “عزيزي المواطن استخدم أجهزتك الكهربائية عند اللزوم فقط”.
ثار غضبه وعاد إلى الشارع مناديا بأعلى صوته “يا أهل الحي، اقتصدوا في كل شيء أرجوكم، حتى الهواء تنفسوه عند اللزوم، عند اللزوم فقط”.