رأيصحيفة البعث

أوراق نهاية عام

مرة جديدة كشفت أوراق نهاية العام التي ألقيت في الإقليم عن حقيقة بسيطة يعرفها الجميع، وتتجاهلها الأغلبية، كلّ لأسبابه، أو أوهامه، الخاصة. وجوهر هذه الحقيقة أن الصراع الدائر في المنطقة والعالم رغم تلطّيه تحت يافطات جميلة وبراقة عن الإنسان وحرياته، ورغم بنيته المعقّدة والمتحرّكة باستمرار، بل بسببها على ما يرى البعض محقاً، هو صراع “اركاع واستتباع” لتقويض الدولة الوطنية، المقاومة تحديداً، تتصادم فيه إرادات بعضها جدّي ووطني، وبعضها انتهازي مصلحي مغامر، للدفاع عن حدود سياسية اقتصادية بالنسبة للبعض، وتغييرها بالنسبة للبعض الآخر، تُداس في سبيل ذلك حقائق، وتُباد فيها شعوب على مذبح مصالح غرب أطلسي لا يرى الوقت مناسباً لصدام مباشر في عالم النووي المرعب هذا.
بيد أن طبيعة الصراع المتشابكة والتغيير المستمر للمواقع الظاهرية للفاعلين الثانويين في “اللعبة”، كما أسماها البعض، كان مقدّراً لها أن تظهر الفوارق بين السادة والأتباع، بين أصحاب القرار وبين المغامرين والواهمين والكاذبين، ففيما كانت لعبة “ترامب” تُدار باعتباره المسؤول عن العالم كله، وعن أمن “إسرائيل” أولاً في منطقتنا، وبالتالي تحقيق مصالح “المؤسسة” الأمريكية، ولو من وجهة نظر فريق داخلي معيّن، كانت لعبة بعض حكام المنطقة تدار من “منطقين” متعاضدين: الأول حتمية الانصياع الكامل للرغبة الأمريكية، والثاني محاولة اغتنام الفرصة لتكبير أحجامهم المتورّمة أصلاً بالحقنة الأمريكية الزائفة، وكانت الوسيلة، لتحقيق ذلك مجتمعاً، سيلاً من الإرهاب العابر للحدود، وآخر من الأكاذيب التي شاركت بصنعها منظمات دولية، ووسائل إعلام تضليل شامل، وخليط عجيب من مثقفي “النهايات”، وعبّاد البترودولار، وأتباع كل ناعق.
ولأن الصراع وصل إلى نقطة مفصلية مع آخر عامنا هذا، فقد كان من الطبيعي أن يرمي البعض بآخر أوراقه، وأن يسعى البعض الآخر لإبعاد الكأس المرّة عن فمه ولو بالهروب إلى الأمام، وأن تتكشّف حقائق عن أكاذيب عدة حفلت بها سنوات الصراع الماضية.
إلى الصنف الأول ينتمي “ترامب” الذي رمى بآخر أوراقه في عدوان أول أمس لينهي بذلك مرحلة “اللعب وراء الستار”، مع ملاحظة أنها ورقة تتجاوز الميدان العراقي السوري في الحسابات الاستراتيجية الأوسع، لتكون رسالة لأطراف مناورات “حزام الأمن البحري” بين الصين وروسيا وإيران، وهي مناورات ذات دلالات استراتيجية بعيدة الأمد، بأنه جاهز لإشعال الفوضى أمام الجميع.
وإلى الصنف الثاني تنتمي مغامرة أردوغان الليبية، فإذا كان البعض، كوزير خارجية قطر السابق، اعترف، بعد خروجه من الحكم، بخسارة مغامراته، وخاصة في سورية، فإن “الباب العالي” المسؤول عن “ولاياته” في حلب وبغداد والقاهرة وأخيراً ليبيا، الذي لا يمكنه الاعتراف بالفشل، فتلك مقبرته السياسية، لم يجد، مع شخصيته المتورّمة بالعظمة، من حلّ سوى أن يبقى متحرّكاً باستمرار للهروب إلى الأمام، فكان دعمه المتجدّد لمرتزقته في إدلب، وكان انغماسه في مغامرة جديدة في ليبيا التي اكتشف فجأة أنها “أمانة عثمانية” ومسألة أمن قومي لا يمكن التفريط بها، لينقل إليها أنظار الداخل التركي واستحقاقاته التي يضيق حبلها حول رقبته، وينقل معها بعض مرتزقته السوريين الذين لا يعرف ما سيفعل معهم بعد الهزيمة القادمة والمنتظرة، فلا منطقته الآمنة قابلة للحياة كما يشتهي ويريد، ولا تهديده أوروبا بإرسالهم إليها جلب ثمنه المفترض.
أما أكاذيب الكيماوي، وهي الصنف الثالث، فقد تكفّل “ويكيليكس”، ومعه بعض وسائل الإعلام العالمية، بفضح تفاصيلها وأسماء مزوّري تقاريرها الأممية ومراتبهم الوظيفية في “منظمة حظر الأسلحة الكيميائية” عبر الرسائل المسرّبة بين الخبراء على الأرض الذين رفضوا التزوير، وبين القابعين في مكاتبهم في عواصم الغرب والخاضعين لأوامر استخباراته.
ولأن الأوراق على هذا الوضوح، ولأن الصراع مستمر، والمغامرات والأوهام قائمة بالتساوق مع الأكاذيب، فسيعود “داعش”، وسيرتدي “الجولاني” وجبهته ثوب اعتدال يُفصّل له في الغرب، وستزداد الضغوط الاقتصادية الإرهابية أيضاً، وسيكون الحل الوحيد والمجدي، كما كان دائماً، الصمود والمقاومة، وهما أمران يحتاجان إلى تعبئة كل الموارد المادية والبشرية، وللنجاح في ذلك اشتراطات واستحقاقات لا بد منها، ولا تخفى على عين لبيب.
أحمد حسن