ثقافةصحيفة البعث

“طقس بارد” مشهدية سردية من ثلوج بلغاريا

 

“الطريق الحجرية خالية، غابت آثار العجلات تحت الثلج المنهمر” صورة طبقات الثلج المتراكمة التي حملها غلاف رواية “طقس بارد” للروائي البلغاري أنطون ميخايلوف وترجمها إلى العربية علي أحمد ناصر- الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن المشروع الوطني للترجمة، المتكاملة مع العنوان توحي للقارئ بشيء من فضاءات هذه الرواية، التي كانت الثلوج فيها عنصراً أساسياً ارتكز عليه الكاتب لبناء المتن الحكائي القائم على المكان في قرية بعيدة في الوادي المغطى بالثلوج التابعة إلى مدينة سكوبيلوفو، وفي محيط الهواء البارد الممتد إلى المشاعر الباردة التي يتسرب إليها دفء النيران المنبعثة من المدفأة لكنها لم تستطع أن تدفئ القلب الذي تخلى عن كل المشاعر والمبادئ. وربما أراد الكاتب أن يذكرنا بأن الزمن لا يسمح باسترجاع المشاعر.
منذ الصفحة الأولى يأسرنا الكاتب بفنية السرد التي امتزج فيها صوت السارد بضمير المتكلم والمتضمن أصواتاً غائبة مع مشهدية سردية سينمائية بوصف دقيق لمعالم الطبيعة القاسية المرتبطة بالأمكنة المتداخلة في القرية الصغيرة بين الحانة والمصنع والبراكة- الغرفة- وخط التلفريك والغابة والجبال المرتفعة “وعلى الثلج المتجمد تتساقط بعض الشرائط الضوئية الذهبية الطويلة، ودخان الشاحنات يرتفع ببهجة رغم البرد الشديد”، وفي المنحى ذاته يوحي بسينوغرافيا مسرحية حينما يصف معالم الغرفة بدقة بين قوسين، وتعد نمطاً من الرواية المختزلة من حيث الدمج بين بالأزمنة بالحاضر والماضي والمستقبل، وتكثيف الأحداث والحوارات، والمضي بالسرد من خلال شخصية البطل –فراتف – الذي حمل تدخلات الكاتب وصوته.
وإغراق الكاتب بالتفاصيل اليومية شد القارئ إلى تخيل طبيعة الحياة للعمال الذين ينقلون الأخشاب إلى الشاحنات وإلى السائقين، الذين يلتقون جميعاً في الحانة المكان الوحيد للتسلية وارتشاف النبيذ الأسود وتبادل الأحاديث، ليدخل الحبكة كاتسا صاحب الحانة الشخصية الثانوية التي تساهم بربط خيوط الأحداث.
ويبدأ الكاتب من شخصية البطل فراتف أحد الحمالين لنكتشف رويداً رويداً شخصيته العبثية العشوائية المتقلبة، ويمتزج الوصف من خلاله “وهناك على خط التلفريك الهوائي تجمعت أكوام من الحطب” يعيش حياة رتيبة مع زوجته ماريا العاملة في مطبخ مطعم المصنع والتي تعود متأخرة فيعيش أماسي الوحدة ويلجأ إلى الحانة. ولا يرهق الكاتب القارئ باكتشاف أسرار فراتف إذ يعترف منذ الصفحات الأولى بأنه تزوج قبلها مرتين، وانفصل عن زوجته الأولى وتركها وهي حامل، ثم تزوج من مطلقة من غوركوفو خانته من مدير المصبغة ومن ثم تزوجته، ليلتقي بماريا الزوجة المتسلطة التي سيطرت عليه.
الحدث الأساسي في الرواية الذي يغيّر حياة فراتف هو لقاؤه مع النادلة ليلحظ الشبه الكبير بينها وبينه، ويدرك أنها ابنته ويتذكر كيف ترك زوجته الحامل ولم يكترث “القد الضخم، الكتفان العريضتان، الأنف الكبير.. قد تكون ابنتي كما أراها” ويتأكد حينما يصغي إلى ثرثرة ابنته فيلا وحديثها عن والدها السكير الذي لا تعرفه إلا من حديث أمها عنه، فيعود الكاتب إلى الماضي وسرد حادثة اغتصاب فراتف الفتاة القاصر كيرا في بوابة فرن القرية حينما كان يعمل في مصنع الجرارات في خليابوفو، ومن ثم زواجه بها خوفاً من محاكمته.
وتعود صفحات الرواية إلى الحاضر- الزمن الفعلي للرواية ليعيش فراتف الصراع الداخلي بين الصمت والاعتراف لفيلا بأنه والدها، وهو يراقبها مع خطيبها الشاب راتشو كوليف أحد السائقين الذي جاء للعمل في القرية، فيتدخل صوت الكاتب “فكّر في الذهاب إلى ابنته وتعريفها بنفسه” ويصل الصراع إلى ذروته مع تحديد موعد زواج فيلا في عيد الطريفون وفشل فراتف في شراء ماكينة الخياطة هدية الزواج لفيلا لعدم تمكنه من الحصول على ثمنها من زوجته ماريا ومن الاستدانة من كاتسا الذي كان يساعد فيلا كأنه والدها الحقيقي، فيسرق القطعة الذهبية التي كانت تملكها ماريا من زوجها الأول واحتفظت بها لتكون هدية لابنتها التي لم ترزق بها، فوجد فراتف ذلك مسوغاً لأخذها لأنها ستكون هدية لابنته وفق الهدف ذاته.
تحمل الرواية في نهايتها شحنات كبيرة من الحزن بتصوير مشهد انتظار فراتف موكب العروس القادم من سكوبيلوفو بعد إتمام مراسم الزواج تحت الثلج وكله أمل أن يقدم لها القطعة الذهبية ويعترف لها بأنه والدها، لكن حلمه تلاشى “فقد عرف أن فيلا لم تعره اهتمامها وهي تمر قربه كشخص غريب” ليشرك الكاتب القارئ بقراءة النهاية حينما يرمي فراتف القطعة الذهبية ويهيم على وجهه ويتوجه نحو سكوبيلوفو “يشعر بعطش قاتل إلى النبيذ” مما يعني إلى هروب جديد وضياع أكبر.
ملده شويكاني