أخبارصحيفة البعث

قانون “سيزر”- البعد السياسي

د. نجم الأحمد- أستاذ القانون العام- جامعة دمشق

يستطيع المرء عبر رؤية تحليلية استنتاج الكوامن السياسية وراء ما أطلق عليه اسم “قانون قيصر” أو “قانون سيزر”، وهو القانون الذي سنّه الكونغرس الأمريكي لا ليطبق في النطاق الإقليمي والشخصي كما هو متعارف عليه في القانون الجزائي، بل ليطال دولاً وكيانات سياسية واقتصادية خارج الولايات المتحدة.
وهو يطال في آن معاً الأفراد والشركات، وكل من يقدّم التمويل أو المساعدة إلى الدولة السورية، بما في ذلك كل ما يتعلّق بالبنى التحتية، والتعاون العسكري، والطاقة. وبطبيعة الحال لن يكون قصراً على المواطنين السوريين، أو الشركات السورية، بل سيطال العديد من الشركات الروسية والإيرانية التي تقف إلى جانب الدولة السورية، وكل جهة تبيع إلى الحكومة السورية بضائع، أو خدمات، أو خبرات تكنولوجية، أو أي معلومات من شأنها دعم إنتاج المؤسسات والمنشآت السورية، بما في ذلك تلك التي تتعلّق بالبترول ومشتقاته، وكل من يقدم بضائع أو خدمات تساعد في البناء، أو الأعمال الهندسية، أو تقديم مساعدات مالية كالقروض، والحسابات الجارية، وحسابات التصدير.
ولم يقتصر فيما يسعى إليه هذا القانون على ما سبق مما له علاقة مباشرة بالاقتصاد، بل شمل أيضاً القادة السياسيين، والعسكريين، والأمنيين، وكبار الموظفين. ومن هنا تتضح لنا المرامي السياسية لهذا القانون. ومسألة المرامي السياسية للقانون واضحة لا تخفى على أحد، فما علاقة ما احتواه لناحية من استهدفهم بموضوع التعذيب، وهل هناك من صلة مباشرة أو غير مباشرة بين الأمرين.
ومن نافلة القول إن هذا القانون لا يستند إلى أي وثائق أو مستندات أو أدلة، أو حتى شهادات الأشخاص، إنه ببساطة قانون نسب إلى شخص مجهول عرف باسم “قيصر” ادعى أن لديه صوراً بالآلاف لأشخاص جرى تعذيبهم في الشوارع والطرقات العامة والسجون، منذ عام 2011 حتى عام 2014. وهنا تتبدّى حقيقة ذلك الاستناد الواهي، فمن ذا الذي رأى أشخاصاً يعذبون في الشوارع والطرقات، ربما لو قيل هذا الكلام قبل عقدين من الزمن لكان من الممكن أن تنطلي هذه الأكذوبة على البعض، أما أن يقال إنه جرى في الفترة بين عامي 2011 و2014 في الشوارع والطرقات فإنه قول يدعو إلى السخرية، خصوصاً في هذه الفترة بالذات حيث كانت تتسابق بعض القنوات الإعلامية للحصول على أي معلومة أو خبر تشوّه به صورة الدولة في نظر مواطنيها، ولو أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث لما تباطأت تلك القنوات في إعلانه، بل وتضخيمه.
ثم إن ما يدعى (قيصر) قال في مواضع عدة أن الصور التي لديه هي لأشخاص قضوا في المشافي، وأنه كان يلتقط الصور لهم بحكم أن عمله يفرض عليه ذلك، وفي مواقع أخرى يقول إن هذه الصور أخذت لأشخاص يتم تعذيبهم في الطرقات والشوارع، وهنا نتساءل ألم يكن سوى هذا (القيصر) كي يوكل إليه وحده هذه المهمة في كل الأمكنة والأوقات؟ ثم إذا كان هناك شخص يتعرّض إلى التعذيب فما هو الداعي إلى تصويره أصلاً؟
لقد وجدت الولايات المتحدة ضالتها فيما يسمّى “قانون قيصر” لاستخدامه ورقة سياسية تضغط بها على خصومها السياسيين، والميدان هو الدولة السورية كالمعتاد. وفي سياق متصل كي يخفي بعض من زعمائها ما يتعرضون إليه من مشكلات داخلية وخارجية.ربما أسهم هذا القانون في إبعاد الأنظار بدرجة معيّنة عما يتعرض إليه الرئيس الأمريكي اليوم من تحقيقات.
كما يراد منه توجيه رسالة إلى الدول التي تجلّت أمامها الحقيقة لجهة الدور الذي أدته سورية في الدفاع عن العالم عامة، وعن منطقة الشرق الأوسط خاصة، في مقارعة الإرهاب والانتصار عليه وعلى داعميه، فأرادت الولايات المتحدة التي انهزم مشروعها في الشرق الأوسط أن توجه رسالة إلى تلك الدول كي لا تعيد علاقاتها بالدولة السورية. وهو يريد من جهة أخرى إفشال مؤتمرات “أستانا” و”سوتشي”. كما سيكون القانون أداة في يد “ترامب” أو ورقة يمكن استخدامها عند الضرورة في مواجهة روسيا والصين وإيران.
لقد انتظرت الولايات المتحدة سنوات حنى أقرّت هذا القانون الذي لا تسعى من خلاله إلا إلى تحقيق مصالحها غير المشروعة، وخصوصاً البقاء قرب حقول النفط أطول فترة ممكنة، الحقول التي استولى عليها تنظيم “داعش” الإرهابي أولاً، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة، لكنها وبعد اندحار هذا التنظيم الإرهابي بفضل تضحيات الجيش العربي السوري لم تجد الولايات المتحدة أي سبيل سوى أن تضع يدها بشكل مباشر على تلك الحقول فيكون عملها بالأصالة لا بالوكالة، ألم يقل “ترامب”: “النفط السوري بأيدينا نفعل به ما نشاء”؟
ومما يؤكد جانباً من الأبعاد السياسية للقانون ما صرّح به عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي لجهة أنهم يريدون من خلاله “إرسال رسالة قوية مفادها أن الولايات المتحدة سترد على الاستفزازات التي تقوم بها إيران، وأن ذلك يمنح أي رئيس أمريكي القدرة على إعادة فرض العقوبات على إيران فوراً إذا حاولت طهران انتهاك الاتفاق النووي”. ولعلّ من المفيد أن نذكر هنا أنه وخلال عرض القانون على الكونغرس الأمريكي لم يتردد أحد أعضائه ويدعى “جيم رتش” في القول: “إن هذا القانون يرسل رسالة لمن يريدون إعادة التأهيل أو التطبيع مع سورية”.
وهكذا يتبيّن لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن هدف القانون الأساسي سياسي بالدرجة الأولى، فهو أداة ضغط تريد الولايات المتحدة استخدامها ليس في مواجهة الحكومة السورية فحسب، بل في موجهة حلفائها، وعلى رأسهم روسيا وإيران. مع الإشارة إلى أن القانون لا يراد منه التدخل العسكري للولايات المتحدة في سورية، فمثل هذا الأمر لا يحتاج إلى قوانين في نظر الإدارة الأمريكية، ولا أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة تدخلت بشكل سلبي منذ بدء الأزمة في سورية، فقدمت كل أنواع الدعم إلى العصابات الإرهابية المسلحة، وهي قد تدخلت بشكل عسكري مباشر وغير مشروع إثر اندحار تنظيم “داعش” الإرهابي في أغلب مناطق شرق الفرات.
الهدف هو استخدام القانون كورقة تفاوض في قضايا سياسية ملحة على الصعيد الإقليمي والدولي، وهو قانون قام على هذا الأساس بدلالة افتقاره إلى أي مؤيد قانوني، أو مستند سليم من الناحية القانونية، ولا يمكن الركون إلى من يحاول الترويج أن غاياته اقتصادية بحتة، إذ إن العقوبات الاقتصادية قائمة بالفعل، وكان ضحيتها الأساسية الشعب السوري، أي أولئك الذين قيل إن القانون جاء لحمايتهم، فهو محاولة للالتفاف على دور مجلس الأمن، ومخالفة صريحة لميثاق الأمم المتحدة، ولكل المواثيق والأعراف الدولية، وقواعد الأخلاق والقانون الطبيعي.
ولكن على الرغم مما يراد لهذا القانون فلن تكون له قيمة من الناحية الواقعية، ولا يمكن الأخذ على محمل الجد ما يصدر عن الإدارة الأمريكية من مواقف متطرفة ومتشددة، فالهدف هو الاستمرار في معاقبة الشعب السوري، فالولايات المتحدة هي التي عطلت حتى إمكانية تمرير المساعدات الإنسانية إلى الشعب السوري الذي تدعي حرصها عليه.
وبقراءة متأنية فإن نصوص القانون ذاته تظهر أن الهدف ليس مجرد إقرار عقوبات معينة، فهو يستهدف أي محاولة لإعادة الإعمار، وكل من يسهم في إعادة الإعمار، فرداً كان أم شركة أم دولة، إنها محاولة ورغبة في أن يكون للولايات المتحدة دورها في المفاوضات السياسية، ومحاولة تحقيق شيء ما ربما عجزت ماكينة الإرهاب والعنف والتطرف المدعوم أمريكياً عن تحقيقه.
وإذا كان من وضع القانون، أو سعى إلى إصداره، لديه أمل في أن يثني الدول التي وقفت إلى جانب سورية في حربها على الإرهاب، أو من أبقى على علاقاته السياسية والدبلوماسية في أن يعيد النظر في هذه العلاقات، فإنه واهم تماماً، فهذه الدول كانت قد حددت موقفها منذ البداية، وكانت كل السيناريوهات ممكنة في الاتجاهات كافة، ومع ذلك بقيت هذه الدولة ثابتة على موقفها، ولن يثنيها قانون مثل قانون “سيزر” عن موقفها.
الشعب السوري الذي قارع الإرهاب، فقاتل أولئك الذين قدموا من أصقاع الأرض كافة كي يعيثوا خراباً وفساداً، وتمكن من الانتصار عليهم، وصبر على الصعوبات والآلام، سيكون قادراً على إعادة بناء ما خربه الإرهاب، من دون حاجة إلى الاعتماد على أحد، أو طلب الاعتماد على أحد.
بقي أن نشير إلى نقطة مهمة مفادها أن الولايات المتحدة فقدت مصداقيتها على الساحة الدولية، وباتت أساليبها ووسائلها الرامية إلى التدخل في شؤون الدول والتحكّم في مصائر الشعوب ونهب ثرواتها، وفرض أجنداتها السياسية التي تعجز عن تمريرها بما يتمشّى وحسن سير العلاقات الدولية، من الأمور الجلية، فحيناً تتذّرع أنها ستغزو هذا البلد بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل، فتفعل ذلك، فتصبح لغة الخراب والدمار هي المسيطرة، وفي نهاية المطاف يظهر للكافة أن ما ادعته كان كذبا، وحيناً تتدخل باسم الديمقراطية، أو الحرية، أو حقوق الإنسان، أو لأسباب إنسانية، ومن جديد يتضح زيف ادعاءاتها للكافة… ومع ذلك تجد بعضاً من الدول التي تسايرها في مراميها العدوانية، ليس لأن هذه الدول كانت عرضة للخداع، أو لأنها تصدق بالفعل ما يتم الإعلان عنه، وإنما لأن توجهات الولايات المتحدة الخاطئة تحقق مصالح الدول المسايرة لها في أخطائها وحماقاتها.
اليوم تعلن الولايات المتحدة من جديد أن هدفها من قانون “سيزر” إنساني، فالهدف هو حماية المدنيين السوريين، لكن الوضع سيكون مختلفاً هذه المرة، قد يصدق البعض من السذج حول العالم هذا الكذب والتضليل، لكن أتحدى أن تقنع الولايات المتحدة مواطناً سورياً واحداً أن لها نوايا حسنة فيما تصبو إليه، لا بل حتى الذين يدعون من معارضة الخارج أنهم ممن يؤيدون هذا القانون فإنما يفعلون ذلك ليس انطلاقاً من حقيقة أن الولايات المتحدة تبحث عن مصلحة الشعب السوري، وإنما لأن في ذلك خدمة لمطامعهم السياسية.
كيف يمكن لأي سوري أن يصدق أن هدف الولايات المتحدة التي دعمت (الكيان الإسرائيلي) منذ أن زرع في أرض فلسطين، وشرد أهلها، والذي احتل أراضي الغير بالقوة، بما فيها الجولان السوري، حماية الشعب السوري؟ ألا يستحق الشعب العربي السوري في الجولان المحتل حماية مماثلة؟ هل لدولة مثل الولايات المتحدة لم تتخذ ولو لمرة واحدة أي قرار أو موقف دولي في صالح الشعب السوري أن تكون اليوم حريصة على مصالح هذا الشعب؟ وهل تكمن مصلحة الشعب السوري في دعم العدوان عليه، ودعم القوى الهمجية الإرهابية التي قتلت ودمرت وخربت كل معالم المدنية والحضارة في الدولة؟ كيف يمكن التصديق أن الولايات المتحدة هدفها حماية المدنيين في سورية وفي اليوم الذي تم فيه توقيع قانون “سيزر” من قبل الرئيس الأمريكي كانت الولايات المتحدة قد عطلت قراراً دولياً بشأن دخول المساعدات الإنسانية إلى سورية، وغضت الطرف عن استهداف الطيران الإسرائيلي للأراضي السورية مرات متكررة، وقبل يومين من توقيع القانون أعلنت أنها ستبطل قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن التحقيق في الجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي؟ وكيف يمكن التصديق أن قانون “سيزر” هو لحماية المدنيين وهم أول ضحايا هذا القانون؟
ولا ننسى أن الولايات المتحدة تحتل اليوم جزءاً من أرضنا بالقوة، ودعمت تركيا في احتلال جزء آخر، وقد تعلمنا عبر التاريخ أن المحتل لا يزرع الورود، ولا يمكن لنواياه أن تكون صادقة، وغايته نهب الشعوب، وسرقة ثرواتها وتراثها وحضارتها.
ولا بد من التذكير أيضاً أن هذه الأرض رفضت العدوان على مر التاريخ، وما من محتل إلا وقد خرج منها مدحوراً ومهزوماً وذليلاً، وسيكون هذا مصير المحتل الأمريكي بكل تأكيد.