دراساتصحيفة البعث

الجغرافيا الجديدة للدبلوماسية العالمية

عناية ناصر

نظراً لأن صعود الصين أصبح قوة رئيسية في السياسة العالمية، فقد تابع المحلّلون وواضعو السياسات مسارها إلى التفوق المحتمل في عدد من الجبهات: حجم اقتصادها، وحجم ومدى علاقاتها الاستثمارية والتجارية، والميزانية العسكرية، وقدرات قواتها العسكرية. لكن وبدءاً من عام 2019، تجاوزت الصين الولايات المتحدة في مقياس أقل تقديراً ولكنه مهمّ للنفوذ العالمي، ألا وهو حجم شبكتها الدبلوماسية.

طوال عقود من الزمان، كان لدى واشنطن أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، لكن الآن أصبحت الصين صاحبة الشبكة الأكبر، حيث تمتلك 276 بعثة دبلوماسية، بما في ذلك السفارات والقنصليات والبعثات الدائمة لدى المنظمات الدولية، مقابل 273 هي شبكة الولايات المتحدة، بانخفاض وظيفة واحدة منذ عام 2017.

يمكن أن يمثّل هذا التغيير نقطة تحوّل في صراع القوى العظمى، نظراً لأن بكين أصبحت أكثر جاهزية لنشر قوتها العالمية، وهي لم تعد مهتمة على ما يبدو بتعليمات الزعيم السابق دنغ شياو بينغ “في إخفاء قوتك، واستغلال وقتك”، وقد استثمرت بكين في دبلوماسية نشطة وبعيدة المدى.

كيف تفوز الصين؟

كان صعود الصين إلى الصدارة سريعاً، وبحسب مؤشر الدبلوماسية العالمية لمعهد لوي للشبكات الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم، تخلّفت بكين في عام 2011، في 23 ممثلية عن واشنطن. وبحلول عام 2016، كانت متخلّفة ثماني ممثليات فقط، في المرتبة الثالثة خلف الولايات المتحدة وفرنسا. وفي عام 2017، صعدت إلى المركز الثاني، متجاوزة فرنسا، قبل الانتقال إلى المركز الأول هذا العام. يضع مؤشر هذا العام الصين في المرتبة الأولى قبل 60 شبكة دبلوماسية كبرى أخرى. فقد افتتحت بكين خمس سفارات جديدة في العامين الأخيرين: في بوركينا فاسو، جمهورية الدومينيكان، السلفادور، غامبيا، وساو تومي وبرينسيبي. وهذه القائمة من البلدان ليست عشوائية، فبعد حملة مستمرة لما يُشار إليه عادة باسم “دبلوماسية دفتر الشيكات”، نجحت بكين في انتزاع حفنة من شركاء تايوان الدبلوماسيين المتبقين، لتصبح الصين لا مثيل لها في عدد قنصلياتها، ففي الآونة الأخيرة، قطعت دولتان في منطقة جزر المحيط الهادئ المتنازع عليها بشدة، وهما كيريباتي وجزر سليمان، العلاقات الدبلوماسية مع تايوان، وتحوّلت إلى الصين، مما قلّل من عدد الدول التي اعترفت بتايوان من 22 دولة في عام 2016 إلى 15 دولة فقط اليوم (والتي تشمل غواتيمالا، هندوراس، والفاتيكان). وبالنسبة لبكين، عزّزت هذه الإستراتيجية العزلة السياسية المتزايدة لتايوان، وزادت من قدرة الصين على النهوض بمصالحها الاقتصادية والإستراتيجية. باختصار، لقد كان مثل ذلك مكسباً للجانبين، وما فوق ذلك ذهب إلى الصين.

ليس لدى الصين توسّع في شبكتها الدبلوماسية فحسب، بل في العمق أيضاً، ففي حين أن بكين وواشنطن متقاربتان من حيث عدد السفارات، فإن الصين لا نظير لها في عدد من القنصليات، فهي تملك 96 قنصلية مقارنة بـ 88 في الولايات المتحدة. وفي حين أن السفارات تعكس القوة السياسية، فإن القنصليات تعكس القوة الاقتصادية. إن تركيز الصين على تعزيز قنصلياتها يتفق مع تركيزها المستمر على الدبلوماسية الاقتصادية إضافة إلى الدبلوماسية التقليدية. ومن بين 96 قنصلية صينية، يوجد 41 في آسيا و28 في أوروبا، وهذا يواكب مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي بنية تحتية تُقدّر قيمتها بمليارات الدولارات تسعى من خلالها الصين إلى توثيق ربط هذه المناطق بها.

دبلوماسية قاسية

كان الوجود الدبلوماسي للولايات المتحدة غير مستقر منذ عام 2017، بعد إغلاق أبواب قنصليتها العامة في سانت بطرسبرغ في عام 2018، وسط علاقات تزداد سوءاً مع الكرملين، ومن دون أي افتتاح جديد لبعثاتها في السنوات الأخيرة، وقد خفضت واشنطن بعثاتها الدبلوماسية إلى 73. في الوقت الذي لا تزال فيه وزارة الخارجية الأمريكية تعاني بعض الفراغ، حتى مع اقتراب الرئيس دونالد ترامب من نهاية فترة ولايته، إذ لم يتم شغل سوى 73 في المائة من المناصب الرئيسية، وفقاً لما أوردته صحيفة واشنطن بوست، إضافة إلى رغبة إدارة ترامب في خفض ميزانيات وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بنسبة تصل إلى 23 في المائة، ولذلك ليس من المستغرب أن تبدو الدبلوماسية الأمريكية استفزازية على نحو متزايد للحكومات الأخرى، فتغريدات ترامب البالغ عددها 11000 تغريدة، هاجم في أكثر من نصفها شخصاً أو شيئاً ما، وهي ليست بديلاً عن شبكة دبلوماسية تعمل بشكل صحيح.
الدبلوماسية الأمريكية ليست متأخرة في كل المجالات، لكن التأثير الدبلوماسي لا يأتي فقط من خلال تأسيس وجود كبير في الخارج ولكن أيضاً من كونه مضيفاً مهماً للبعثات الأجنبية. تظل الولايات المتحدة، وبفارق كبير، المكان الأكثر شعبية بالنسبة للدول للحفاظ على السفارات والقنصليات، فهي موطن لنحو 342 سفارة وقنصلية تنتمي إلى 61 دولة مدرجة في الفهرس، وتأتي الصين بـ 256، أي بفارق كبير. وإذا أضفنا البعثات الدائمة للمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة إلى المعادلة، تزداد الولايات المتحدة قوة. لكن بالمقابل تقوم حكومات أخرى، وعلى نحو متزايد، بإنشاء ممثليات في مدن صينية من الدرجة الثانية والثالثة، وهو شيء يجب مراقبته عن كثب في السنوات المقبلة. ومع ذلك، سوف يستغرق الأمر تعديلاً جدياً للنظام الدبلوماسي العالمي حتى يتغيّر الوضع الراهن في هذا المقياس الخاص لصالح الصين في المستقبل القريب.

مقياس الطموح الوطني

إلى جانب إعادة تنظيم العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين، أدّت الاضطرابات العالمية الأخرى إلى تحولات في الأنشطة الدبلوماسية للحكومات الأخرى، فقد دفعت البريكست على وجه الخصوص عدداً من الحكومات الأوروبية إلى إجراء تغييرات. ومع اقتراب المواعيد النهائية المتتالية لبريكست، التي تغيب، ثم تلوح في الأفق مرة أخرى، عزّزت إيرلندا شبكتها بثماني بعثات، مما تسبّب في ارتفاعها إلى ثلاثة مراكز في المؤشر منذ عام 2017، وهي الزيادة الأكبر في هذا المجال، فمع مواجهة إيرلندا مغادرة أكبر شريك لها في الاستيراد وثاني أكبر شريك في التصدير، ربط وزير خارجيتها علناً هذه الخطوة بإستراتيجية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد ربطت هولندا، أيضاً، حملتها الدبلوماسية الأخيرة مع اعتبارات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بسبع ممثليات جديدة في غضون عامين، ومن المتوقع افتتاح المزيد من الممثليات بحلول عام 2021.

بالمقابل، أغلقت المملكة المتحدة أو خفضت 11 من القنصليات والمكاتب الدبلوماسية منذ عام 2016، متراجعة من المركز التاسع قبل ثلاث سنوات إلى 11 اليوم. وهذا يتعارض مع الالتزامات بفتح ثلاث ممثليات جديدة في المحيط الهادئ و12 ممثلية إضافية على مستوى العالم بحلول نهاية عام 2020. وهذا كثير للغاية بالنسبة لوعود “بريطانيا العالمية”، لكن اختيار بريطانيا لمكان توسيع شبكتها ليس محسوباً أبداً.

وانتقلت اليابان إلى المركز الرابع في عام 2019، متجاوزة روسيا لأول مرة في مواجهة توازن القوى المتغيّر في جوارها، بما في ذلك الصين التي تزداد قوة، لذلك تستثمر طوكيو بهدوء في صمتها الدبلوماسي منذ ما يقرب من عقد من الزمن، فبإضافة سبع ممثليات جديدة في بلدان محورية استراتيجياً مثل كمبوديا والفلبين وسيشيل وفانواتو، يصل إجمالي عدد ممثليات طوكيو إلى 247.