رأيصحيفة البعث

مسألة وقت

ربما لا يختلف توصيف الكثيرين لتهديد الرئيس الأمريكي بالسطو على أموال العراق الموجودة في أمريكا إذا تبنّت حكومته رسمياً قرار برلمان بلادها بإخراج القوات الأمريكية من أراضيها، كحلقة جديدة في سياق سيرورة مديدة لجريمة نهب الشمال للجنوب، بحجج شتى، كان التمدين والتحديث أول نغماتها “الجميلة والمقبولة”، لتليها وتتوازى معها نغمات أخرى كان آخرها في عصر “نظام التفاهة” الأمريكي – كما يصفه آلان دونو أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك الكندية – نغمة الحماية من عدو، غالباً ما يكون مفتعلاً، وهي نغمة سمحت في مآلها الأخير لمقاول مثل “ترامب” القيام بأوقح عمليات نهب علني في التاريخ، مرة في الدخول وأخرى في الخروج.
بيد أن التهديد “الترامبي” الجديد بمفرداته وبالظروف الموضوعية، والذاتية، التي أحاطت إطلاقه، يوحي بأبعد من ذلك، بل يكاد يعلن، وللمرة الأولى بهذا الوضوح، أن الخروج الأمريكي من المنطقة أصبح مسألة وقت، لأن البديل الوحيد، كما يبدو، هو حرب مديدة ومكلفة وغير مضمونة النتائج مع محور أعلن صراحة أن برنامج عمله للمرحلة القادمة ينضوي تحت يافطة واحدة: إخراج المحتل الأمريكي من المنطقة.
والحال فإن “مسألة الوقت” هذه أصبحت دلائلها ومؤشّراتها تتزايد باطراد لافت، وبدأت مفرداتها تتسّرب من دراسات وأبحاث بعض مراكز “الثينك تانك” الأمريكية، إلى ثنايا الجمل والتعبيرات التي يستخدمها أركان إدارة “ترامب”، والأهم أنها بدأت تتضح في أفعال محددة على الأرض، وليس من غير دلالة محاولة واشنطن تحميل الحلفاء، أو الأتباع، تكاليف البقاء، أو تظهير “الناتو” في الواجهة العراقية كيافطة وحيدة ممكنة لـ”تقاسم الأعباء”، وحتى محاولة استعادة “فزاعة داعش”، أو رص صفوف الأتباع، وهم كثر، خلف مطلب عدم الخروج، ليس من العراق فقط، بل من المنطقة بأكملها، والتهويل من تبعاته بحجة أن “الوقت ليس مناسباً لانسحاب قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن” على ما نطق أحدهم بلسان “ائتلاف إقليمي” يعرف الجميع أن ما يشغله اليوم أمران متلازمان: الأول، الخوف من تبعات سقوط هيبة الحامي الأمريكي، وبالتالي تراجع قوته وقواته، والثاني، إعادة تجديد ذرائع البقاء القديمة، والعمل على خلق أخرى جديدة تُقدّم لإدارة “ترامب”، وهذا أمر يتكفّل به ملوك النفط بخزائنهم وأسلحتهم ومؤامراتهم وأتباعهم، وبالتوازي إعادة رسم الوقائع والتهوين من أهمية وفعالية ردود أفعال محور المقاومة، ووضعها في إطار ضيّق للتجييش ضدها، وهذا أمر تتكفّل به “كتيبة” مثقفي التبعيّة الغيورين ووسائل إعلامهم.
لكن ذلك كله، وكما يبدو من ظاهر الأحداث وبواطنها، مرحلياً ووقتياً، لا يمكن له أن يصمد أمام قرار يبدو أنه يتجاوز إرادة محور المقاومة المحلي، ليكون قراراً، ولو مضمراً، لمحور دولي يريد اغتنام الفرصة – في صراعه الطويل مع واشنطن على زعامة العالم – ليضيفها إلى رصيده المتنامي باستمرار في مواجهة واشنطن، وهذه المرة تلوح فرصته من هذه الخاصرة الإقليمية التي أضعفها تراكم، وتسارع، ظروف إقليمية ودولية يبدو أن اغتيال سليماني، الشخص والرمز، كان قشتها التي قصمت ظهر البعير و”كعب أخيل” الذي أصابته – واشنطن – بصواريخها ذاتها التي أطلقتها على سيارته.
بيد أن ذلك كله لا يعني أن “الوقت” سيكون غداً أو بعده، ولا يعني أيضاً أن الخروج سيكون سلساً أو سهلاً، فالامبراطوريات، كما يعلّمنا التاريخ، لا تندحر هكذا، وهناك دماء ودموع كثيرة تنتظر هذا العالم، ونحن في قلبه، في هذه المعركة الطويلة مع “نظام التفاهة” الذي صار عنده “القانون الدولي ومفاهيم السياسة والدبلوماسية تخضع لمزاج أفراد معدودين في البيت الأبيض”، كما يقول “آلان دونو” محقّاً.
أحمد حسن