ثقافةصحيفة البعث

منصور الرحباني.. الفنان الذي أغلق نافذة الحياة وترك الفن وحيدا

 

فتش الشقيقان عاصي ومنصور الرحباني عبر رحلتهما الطويلة عن المعاني التي تتضمنها ثلاثية الحياة الأرض والحب والمصير الإنساني في أصداف البحار ورمال الشواطئ، وهبطا على سطح القمر ومجرات السماء البعيدة إلى أن رسيا بقاربهما في مرفأ صوت فيروز التي تدفقت حنجرتها بجداول وأنهار من الدرر التي نقشت في وجدان المواطن العربي، وكان للفنان منصور الرحباني -الذي تصادف “ذكرى رحليه هذه الأيام – رؤيته حول الفن اللبناني إذ كان يراه منارة لكل الفنون العربية، فيقول: إننا رغم كل ما حصل في لبنان لا نزال نملك فناً جيداً، لكننا بحاجة للثقافة والاختصاص ودراسة المسرح والموسيقى وأصول الغناء لأن الموهبة وحدها لا تكفي، والفنان يحتاج إلى الكثير ليصل إلى مرحلة الإبداع، وعليه أن يختصر ويستوعب كل تجارب الحضارة حتى يبلغ منتهاه، والمسرح الرحباني هو مسرح محض نلتقي فقط في كوننا مسرحاً، وأنا أعرف أن ثمة آراء لبعض الاحترافيين يصنفون فنهم بالمسرح الجاد، وفننا يقارب المسرح، والحوار الغنائي عندنا جزء من التسلسل الدرامي، ومع ذلك فإن أي مسرحية للرحابنة بدون أغان أو موسيقى هي مسرحية متكاملة، وهذا يؤكد أننا نشتغل العمل المسرحي درامياً متخيلين لنا خطاً مسرحياً نؤكد به على أنه مسرح المستقبل هو العودة إلى الينابيع أي أن مسرحنا ليس مسرح ثرثرة حيث يتردد حول موقف معين، فيغوصون ويتشعبون في التفاصيل بهدف دراسة نفسيات الشخصيات المسرحية والمتفرج”.
وأضاف الرحباني: مسرحنا تماماً كمسرح شكسبير يعتمد على الاختصار حيث بأقل كمية من الكلام يمكن أن تشرح أكبر قدر من الأفكار، ذلك أننا نعرف أن إنسان الفن يستطيع أن يفهم المواقف الكبيرة بالكلام القليل المعبر، وبواسطة الموقف المتطور، نحن لا نخلق شخصيات ونحركها حسب مشيئتنا، في مسرحنا الشخصيات تتحرك من وحي التعقيدات الموجودة على المسرح، بمعنى الشخصية ليست حاملة كلاماً للمؤلف بل الشخصية بحد ذاتها تتفجر من تلقاء نفسها، وربما يعتقد البعض أن التعبير بالغناء يعني عدم الاهتمام بالموقف التمثيلي، ولكنني أعتقد العكس لأنه بواسطة الغناء تزيد درامية الموقف ويتم استقطاب المشاهدين من كافة المستويات، فمسرحنا يحب الناس على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم لأنه يصل لكل فئات الشعب فنحن نفهم واجبنا تجاه جمهورنا ونحن هنا نقارب التراجيديا اليونانية التي كانت تصل إلى كل الشعب وليس إلى فئة من الأشخاص، ومهما قال الفنان أنا لا يهمني الشعب فإنه يخادع نفسه لأنه يعرف جيداً أن خلوده الفني بقدر ما يستطيع أن يترك بصمة عند الآخرين”.
وتتضح ميزات المسرح الرحباني الإبداعي في اكتمال موهبة الخلق لديهما إذ يكمل اللحن المنسجم جمال الكلمة الشعرية، فكانت سمة مسرحهما الغنائي في البداية هي الأسطورة الشعرية، حيث تتجسد الكلمة الهاربة المستعصية، الكلمة الضوء، المحبة، الموسيقى، وهذا كله له وضع خاص في المسرح الرحباني، له استقلاليته، فالرحابنة ينوعون في مسرحهم لأن الحياة متنوعة، فالفكرة هي التي تجر إلى الكتابة، ومسرحهم مسرح فكرة، لقطة، بقعة ضوء، وقد اتهم المسرح الرحباني بطرح قضايا كثيرة، أحيانا تكون تجريدية ذهنية، مما يصعب التوفيق بين الحرص على المستوى الفكري، وبين الوصول إلى القطاع الشعبي العريض، وعلى هذا الاتهام رد الفنان منصور بالقول: “ومن قال إن الشعب لا يفهم الأعمال الفكرية، الفكر العميق ليس نقيضاً للشعب، وإذا انطلقنا من هذه البديهة نستنتج أنه لابد للمبدع سواء كان رجل مسرح أو شاعراً أو غيره أن يتوجه إلى جهة ما حتى إذا كان يتوجه إلى النخبة فإنها فئة من فئات الشعب، والهدف عند أي مبدع بدءاً من شكسبير إلى آخر رجل مسرح في بلادنا أن يصل إلى أكبر عدد من الناس، وأن يتفاعل مع أكبر شريحة منهم، لذلك الذين يقولون أنهم لايهتمون بذلك يكونوا عاجزين عن الوصول إلى الناس، وأهم شيء هو الوصول إلى الآخر والتفاعل معه، ومهما كان المبدع جمالي التوجهات لابد أن يلامس الآخرين ويعمل على ترهيف ذوقهم ونقل عدوى الجمال إليهم، ولايمكنه أن يكتب في فراغ، وحين يتزود الناس بالجمال فإنهم على خطى المبدع الحقيقي يتجهون إلى الحق والخير والله، ومهما تفنن أصحاب النظريات فإن كل فكر وكل فن يكون ملتزما، وأهم أنواع الالتزام هو ذلك الذي يرتبط بقضايا الانسان والحرية”.
ارتبط مسرح الرحابنة بالشعب ارتباطاً عضوياً، وقد استطاع خلال مسيرته أن يكون ضميره وعقله وصوته وألحانه وعاداته وتقاليده من المختار والشاويش ورئيس البلدية، جاء إلى السياسة والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وبالشعر وحده كانت الخشبة لا تعطي عميقا إلا لهما، وبالموسيقا استطاعا أن يؤسسا مدرسة لبنانية قائمة بذاتها، فقبلهما الأغنية كانت سراباً، والموسيقا فوضى.
ما قدمه الرحابنة من أعمال أكدت على عصرنة مسرحهم وتماشيه مع معطيات الزمن الحالي، في مسرحهم حضر وجع الناس، فالإنسان موجوع دائما ومعذب ووحيد، وهو يموت منفرداً، والمجتمع يشكل زينة صغيرة ولكن في النهاية الإنسان يبقى وحيداً والمسرح الرحباني يعاني من هذه الحقيقة لأنهم يعنون مايكتبونه، وظلت شجرة الرحابنة مثمرة والفن الأصيل مستمر فبعد غياب عاصي بقي منصور شامخاً في انتظار الجديد، وبقي يحمل هموم الأخوين رحباني في الحرية والانسان، واستمر في مواجهة العالم الفاقد للعدالة، ورغم كل الصعوبات التي واجهها كان مصراً على المتابعة لأن الانسان طالما يعيش فلابد من الحلم والقلب الانساني ينبوع من الأحلام، وإن بطل الحلم فمعناه السقوط في الموت.
وأول الأعمال التي قدمها منصور الرحباني منفرداً بعد وفاة شقيقه عاصي كانت مسرحيتي “صيف 840 والوصية” وهما من بطولة غسان صليبا وهدى حداد أيضاً، وقدم كذلك مسرحيتي “ملوك الطوائف والمتنبي” من بطولة غسان صليبا وكارول سماحة ومسرحيات “حكم الرعيان” بطولة الفنانة التونسية لطيفة و”آخر أيام سقراط” من بطولة رفيق علي أحمد و”النبي” المأخوذة عن نص جبران خليل جبران و”زنوبيا” من بطولة غسان صليبا وكارول سماحة، وآخر أعماله المسرحية الغنائية كانت “عودة طائر الفينيق” بطولة الفنانة هبة طوجي.
في 13 كانون الثاني من عام 2009 أغلق منصور الرحباني نافذة الحياة ورحل عن عمر ناهز 83 عاماً.

سلوى عباس