دراساتصحيفة البعث

التدخل التركي السافر في ليبيا إلى أين ؟

ريا خوري

في خطوة هي الأخطر على ليبيا والشعب الليبي صوَّت البرلمان التركي يوم الخميس في الثاني من كانون الثاني بالموافقة على طلب الرئاسة التركية إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا بناءً على اتفاق تعاون عسكري وأمني وقعته تركيا مع حكومة الوفاق الوطني الليبية. وجاءت نتيجة التصويت لصالح القرار الرئاسي بموافقة 325 عضواً مقابل 184 من مجموع أعضاء البرلمان البالغ عددهم 600 عضو، وحقيقة الأمر أنَّ البرلمان التركي كان قد صادق عليها على الرغم من افتقارها لأي أساس تشريعي وقانوني، إضافةً إلى أنَّ البرلمان الليبي لم يصادق عليها حسب ما تقضي به المادة الأولى من ( اتفاق الصخيرات عام 2015 ) والذي من المفترض أنَّ وجود فايز السرَّاج نفسه يستند إليه . علماً بأنه لم يحصل هو وحكومته على ثقة البرلمان أصلاً. وبالتالي فإن وجود فايز السرَّاج في السلطة غير شرعي!! ولا يحق له توقيع أية اتفاقات على الإطلاق.
موافقة البرلمان التركي هذه تمنح أردوغان الحق في إرسال قوات عسكرية وأمنية إلى ليبيا لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد، كما أن موافقة البرلمان التركي جاءت على خلفية مذكرتي تفاهم وقعتهما تركيا مع فايز السراج، رئيس ما يُعرف بـ (حكومة الوفاق الوطني) الليبي يوم 27 تشرين الثاني عام 2019 ، تتضمن المذكرة الأولى ترسيم الحدود الملاحية في البحر الأبيض المتوسط ، بينما تتناول المذكرة الثانية التعاون الأمني والعسكري بين الطرفين. والهدف من التدخل التركي في ليبيا يبدو في الظاهر دعم حكومة الوفاق الوطني في مواجهة قوات اللواء خليفة حفتر، قائد قوات شرق ليبيا التي تحاول بقوة السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس التي تسيطر عليها غالبية قوات حكومة الوفاق .
إن تسارع الخطوات التركية في تدخلها الأمني الاستخباراتي والعسكري السافر في ليبيا هدفه إشعال فتيل الحرب وزيادة التوتر في منطقة الشرق الأوسط بشكل خطير . ومنها يمكن أن تنطلق شرارات حرب إقليمية لا حد لها، لأنَّ طليعة التدخل كان الإرهابيون، وحتى إذا لم يحدث ذلك فإن ما أقدمت عليه تركيا يمكن أن يكون له تداعيات سلبية كبيرة على الأمن والاستقرار والسلام في عموم المنطقة وما حولها . وهكذا فقد أعلن أردوغان يوم الأحد في الخامس من كانون الثاني عن بدء تحرُّك وحدات عسكرية وقوات خاصة وأجهزة أمنية تركية إلى ليبيا لدعم حكومة فايز السرَّاج في العاصمة الليبية طرابلس . لقد شهدت الأسابيع الماضية المترافقة مع ازدياد شدة الحصار على قوات المشير حفتر للعاصمة الليبية طرابلس، إرسال دفعات كبيرة من الإرهابيين أصحاب الخبرات في القتل والتدمير والذبح من سورية إلى ليبيا وعلى رأسهم قوات تنظيم ( داعش) ، يقدر عددهم بأكثر من ألف إرهابي. ولا تزال دفعات الإرهابيين من تنظيم “جبهة النصرة” تتوالى. الشعب السوري خبر سلوك ومنهج النظام التركي، وإن إرسال تركيا للإرهابيين والأسلحة إلى ليبيا ليس بالأمر الجديد، فهو يعود إلى ما بعد سقوط نظام معمَّر القذافي مباشرةً.. غير أنَّه اتخذ أساساً شكل إرسال الأسلحة لميليشيات (الإخوان المسلمين ) وغيرهم من الفصائل الإرهابية والمتطرفة التي تستند إليها حكومة فايز السراج.
غير أنه مع توالي انتصارات الجيش الوطني الليبي، وحصار طرابلس، اتسع نطاق التدخل العسكري التركي السافر، وأصبح يمثل نقلةً نوعيةً قياساً بما مضى في السنوات الماضية، ويهدِّد بالتحوُّل إلى غزو تركي فعلي، في إطار مشروع واسع للهيمنة الإقليمية العربية. ونتيجة لمتابعة ما تضمنته مذكرتي التفاهم بين السراج والقيادة التركية يؤكد السرَّاج أن كل ما يحتاج إليه من تركيا هو أسلحة نوعية ورادارات وتوفير غطاء جوي واستشارات عسكرية، وأنَّ مهمة تلك القوات تأمين مناطق أمنية حساسة.
إن الخطوة التركية تلك تبدو مستحيلة النجاح والتي تهدف بشكل سري على السيطرة على ليبيا، والانطلاق منها لتهديد جمهورية مصر العربية وتونس والجزائر، واستعادة أمجاد الخلافة العثمانية ، لأنَّ هذه الخطة تصطدم بمصالح قوى عربية وإقليمية ودولية كبرى لها مصالح في المنطقة، لكنَّ تمكُّن تركيا في تحقيق جزء كبير من خطتها (بمعنى السيطرة على طرابلس العاصمة ومساحة كبيرة نسبياً من الأرض المحيطة بها ) هي في حدِّ ذاتها مسألةٌ بالغةَ الخطورة. حيث سيؤدي إلى إطالة أمد الحرب الأهلية الليبية لسنوات طويلة لا أحد يعرف متى تنتهي، بما يعنيه ذلك من بقاء ليبيا في حالة الدولة الفاشلة المجزأة والمترهلة، وبما يعنيه أيضاً من إهدار المكاسب التي حققها الجيش الوطني الليبي، وعودة الفوضى المطلقة والإرهاب والقتل والتدمير والخراب، واستفحال الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وتجارة البشر، إلى ما كانت عليه في سنوات مضت ليس هذا فحسب بل إعادة تنشيط الإرهاب والإرهابيين بشكلٍ كبير وعودتهم إلى الحدود الغربية لجمهورية مصر العربية التي تصل إلى نحو (1250كم) وإلى حدود الجزائر وتونس غرباً والحدود الشمالية لدول الصحراء مثل (تشاد والنيجر ومالي) وامتداداتها الواسعة إلى بقية الصحراء الإفريقية الكبرى، وصولاً إلى الساحل الغربي لإفريقيا في نيجيريا حيث تتواجد قوات بوكو حرام الإرهابية، وبوركينا فاسو وغيرها.. علماً بأنَّ مساحة ليبيا نفسها تبلغ ( 1،7مليون كم2) ومساحة الجزائر تقترب من تلك المساحة، ودول الصحراء الإفريقية كلها ليس لديها مؤسسات أمنية وعسكرية قوية أو تكنولوجيا فضائية تمكِّنها من التصدي للإرهاب والإرهابيين . ومن شأن وضع كهذا أن يهدِّد الجهود الكبيرة التي تم بذلها في ليبيا خلال سنوات للقضاء على الإرهاب أو تحجيم دوره وخنقه ومنعه من الانتشار، وفي مواجهة دول الاتحاد الأوروبي مباشرةَ عبر البحر الأبيض المتوسط، وهذا الأمر ترفضه الدول الأوروبية الكبرى بخاصة تلك الدول المتشاطئة مع البحر الأبيض المتوسط . كما أنَّ الجزائر ترفضه ولا تسمح به لما يمثله من خطرٍ داهم على أمنها القومي.
إنَّ عملية دخول القوات التركية إلى ليبيا برمتها تؤدي إلى الإخلال بموازين القوى في الدول المتشاطئة مع البحر الأبيض المتوسط ودول شرق المتوسط والجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ، كما أنَّ الخطر سيداهم مصالح الدول من خلال قربها من الممرات المائية الهامة جداً للتجارة والملاحة البحرية مثل قناة السويس والبحر الأحمر ومضيق باب المندب. وهذا الخلل سيسمح لتركيا تنفيذ المذكرة الثانية التي وقعها أردوغان مع فايز السراج والقاضية بالتعاون الأمني والعسكري بين الطرفين وهي مذكرة تقسيم الحدود البحرية التي تجاوزت الحقوق القانونية والجغرافية لقبرص واليونان، والتدخل بشكل سافر في سوق الغاز والنفط الأوروبية، وهذا الأمر لا يمكن أن تتصوَّره الدول الأوروبية لأنه صعب ولا تسمح به الدول الأوروبية الكبرى . فقد لا حظنا أن ايطاليا سعت للاقتراب من المشير خليفة حفتر والابتعاد كثيراً عن فايز السرَّاج ، ليس هذا فحسب بل أدانت الدول الأوروبية التدخل التركي في ليبيا. وهذا يعني الحكم بالموت بشكل مسبق على مؤتمر برلين المقرر عقده هذا الشهر كانون الثاني ، ونعتقد أنه إذا تم انعقاده فإنه سيطالب بالدرجة الأولى بانسحاب تركيا من ليبيا، لأنَّ توسُّع التدخل العسكري والأمني في ليبيا سيثير غضباً شديداً في أوروبا، أما روسيا فسيكون غضبها مضاعفاً لأنها اللاعب القوي الآن في منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط ، إضافة إلى ايطاليا وفرنسا اللتين لن تفرطا في مصالحهما النفطية الضخمة في ليبيا من خلال شركة توتال الفرنسية وإيني الايطالية . كذلك الاتحاد الأوروبي القريب من مصادر الغاز والنفط.
ونحن نعلم ما يدور في كواليس السياسة الأوروبية من قرارات يمكنها مواجهة تركيا بفرض عقوبات اقتصادية قاسية جداً ستعيق مسارها الاقتصادي والسياسي. ليس هذا فحسب بل إن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لهما مصالح نفطية كبيرة في ليبيا.
البرلمان الليبي في شرق ليبيا ( بنغازي ) اتخذ قراراً بإلغاء اتفاقيتي الأمني والبحري اللتان عقدهما فايز السراج مع تركيا وإحالته إلى القضاء بتهمة الخيانة العظمى . مع الأخذ بعين الاعتبار إلى أنَّ ( اتفاق الصخيرات ) الذي وقعه المشاركون في الحوار الليبي يوم 11 تموز عام 2015 والذي ينص بالأحرف الأولى على تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية، وتأسيس مجلس أعلى للدولة، ومجلس أعلى للإدارة المحلية وهيئة الإعمار، وأخرى لصياغة الدستور ومجلس الدفاع والأمن. هذا الاتفاق ( اتفاق الصخيرات ) لم تتم المصادقة عليه أصلاً من جانب البرلمان .