دراساتصحيفة البعث

أزمة الهوية الألمانية

عناية ناصر

احتفلت ألمانيا في 9 تشرين الثاني الماضي بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، إلى جانب إعادة توحيد ألمانيا بعد ذلك بعام . كان هذا الحدث بمثابة نقطة تحول في التاريخ الألماني. ورغم أن إعادة التوحيد كانت فوضويّة، لكنها أتاحت بداية سياسية جديدة لألمانيا، وفرصة لمعالجة الفجوات بين الشرق والغرب ببطء. بعد ثلاثين عاماً، يكشف نجاح حزب البديل اليميني المتطرف، في الانتخابات الإقليمية في شرق ألمانيا عن تجدد الاضطرابات في المجتمع الألماني.

تعد الانتخابات الإقليمية في الولايات الشرقية لبراندنبورغ وساكسن وتورينغن خلال الأشهر القليلة الماضية أحدث إشارة تحذير لألمانيا. فمن ناحية ، لن يؤدي نجاح الحزب البديل في هذه الانتخابات – الذي احتل المرتبة الثانية في الولايات الثلاث – إلى انهيار الائتلاف الكبير الحاكم في ألمانيا، بين الديمقراطيين المسيحيين، والديمقراطيين الاشتراكيين. ومع ذلك، أصبح من الصعب للغاية الآن تشكيل حكومات إقليمية مستقرة دون حزب البديل من أجل ألمانيا، والذي تقاطعه جميع الأحزاب حالياً باعتباره متطرفاً للغاية. في براندنبورغ وساكسن، تم إجبار حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والحزب الديمقراطي الاشتراكي، والخضر على التحالفات الصعبة المكونة من ثلاثة أحزاب، وفي تورينغن لن يتمكن أي تحالف حاكم سابق من ضمان الأغلبية.

تؤكد هذه الانتخابات حقيقة أنه وبصرف النظر عن الولاءات الحزبية ، لا تزال هناك اختلافات كبيرة بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. كما يكشف خطاب الحزب البديل من أجل ألمانيا، ولا سيما جناحه اليميني المتشدد – المعروف باسم دير فلوجل ويقوده المؤرخ السابق بيورن هوك – عن رغبة جذرية في إعادة تشكيل المجتمع الألماني.

خاض حزب البديل الألماني الانتخابات وفق شعار “Wende 2.0” ، في إشارة إلى الثورة السلمية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي ساعدت في سقوط الجدار. كان وعد حملة الحزب البديل من أجل ألمانيا هو إكمال هذه الثورة وضمان سيادة القانون وحرية التعبير والديمقراطية نفسها، والتي يسعى إلى تصويرها وكأنها مهددة من الحكومة الألمانية الحالية.

مثل هذه الرسالة، حتى من الحزب الذي يرتبط زعماؤه وأعضاؤه باستمرار بالنازيين الجدد، حققت نجاحاً مفاجئاً في ألمانيا الشرقية. لقد تراجع الإيمان بالديمقراطية في شرق ألمانيا: اليوم حوالي 30 في المائة فقط يقولون إن الديمقراطية التي تمارس في ألمانيا هي أفضل أشكال الحكم. ووفقاً لكريستيان هيرت ، المفوض الفيدرالي الألماني لولايات ألمانيا الشرقية السابقة، فإن الناس هناك “سئموا التغيير” ويشعرون بأنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية.

يرتبط الكثير من هذا بالاختلافات الاقتصادية العميقة التي تبقى بين الشرق والغرب على الرغم من المكاسب الاقتصادية المذهلة والاستثمارات الضخمة من ألمانيا الغربية خلال العقود الثلاثة الماضية ، إلا أن ألمانيا الشرقية ما زالت أقل ثراءً من نظيرتها الغربية. مع اقتراب 30 عاماً على إعادة التوحيد، يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الشرق 75 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الغرب، وتواجه المناطق الريفية الشرقية تعداداً هائلاً. هناك شعور عام متجذر بأن الألمان الشرقيين ممثلون تمثيلاً ناقصاً في المناصب العليا مقارنة بالألمان الغربيين. ساعدت هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الدائمة في جعل شرق ألمانيا أرضاً خصبة لحزب البديل من أجل ألمانيا لمدّ جذوره.

يقوم الحزب البديل النشط في الشرق والراكد في الغرب، بحرب ثقافية في جميع أنحاء ألمانيا، أهدافها الرئيسية هي وسائل الإعلام التقليدية، التي ينظر إليها الحزب كجهاز دعائي، ومجموعات تمثل وجهات نظر سياسية أو ثقافية أخرى. أسلحة الحزب هي تهديدات ضد الصحفيين أو محاولات لتقليص تمويل أشكال الفن المختلفة. كما أنه ينظم مظاهرات ويصدر خطاباً حماسياً يدعو، على سبيل المثال ، إلى ثقافة المسرح الوطني لدعم الهوية والثقافة الألمانية. شجع صخب  الحزب البديل هجوم العناصر المتطرفة والعنيفة في المجتمع الألماني لدرجة أن الفنانين والمسؤولين تلقوا تهديدات بالقتل، بما في ذلك زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي  مايك موهرينغ، الذي تلقى تهديداً بالقتل موقعاً عليه  “بالتحية النازية “يحيا النصر.

نجاح حزب  البديل هو دليل على أزمة الهوية الألمانية ، وخاصة فيما يتعلق برؤية الألمان الثلاثين سنة الماضية. من غير الواضح ما إذا كان سيستفيد  الحزب البديل أكثر من نجاحه الانتخابي. لقد تزعزع الحزب على المستوى الوطني ، ومن المرجح أن يستمر الصراع بين الجناح الأكثر اعتدالاً في الحزب و الجناح المتطرف،  لكن هذا قد لا يهم كثيراً بالنسبة لتوجه الحزب، حيث أن الخلاف الكبير بين الجناحين هو على الأسلوب وليس على تطرف هوك، الذي هو في “وسط الحزب” وفقاً  لرئيس الحزب السابق ألكساندر غاولاند.

بعد مؤتمرات الحزب الوطني في تشرين الثاني وكانون الأول الماضيين، ربما سيظهر التأثير الحقيقي لهذه الانتخابات على السياسة الألمانية الأوسع نطاقاً فيما بعد. على الرغم من أن زعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي قد تم إيقافها مؤقتاً، إلا أنه لا يزال هناك انقسام في الحزب فيما يتعلق بالاتجاه العام، الذي يسعى حزب البديل من أجل ألمانيا بشكل علني إلى استغلاله. في حين يبدو الائتلاف الحاكم في ألمانيا جاهزاً لإنهاء الفترة المتبقية من ولايته، تكشف الطفرة الشرقية لحزب البديل من أجل ألمانيا واستراتيجيته الجديدة أنه لا يزال هناك عمل ضخم يتعين القيام به لحماية المكاسب الديمقراطية التي تحققت خلال الأعوام الثلاثين الماضية.