“نرسيس وغولدموند”: الرواية الحياة
نزال العقل والرغبة، صراع التضاد والتلاقي، الحركة وصورتها، الفعل وتجريده، الحياة والموت، الجمال والقبح، الشجاعة والتهور، الجرأة والحذر، العاطفة والتقاليد، التمرد والخضوع، الشروق والغروب، وثنائيات كثيرة حوتها ثقافته المتشعبة الينابيع، المائلة والمتأثرة بالطاوية والبوذية، وفلسفات شرقية أخرى، عاش بين معتنقيها وتشربها بكل ما فيه؛ بما سبق وغيره، سينسج “هرمان هسه” -1877-1962- روايته الأهم في تقديري الشخصي “نرسيس وغولدموند” -1930-، الرواية التي ترجمها بإبداع مواز، المترجم السوري “أسامة منزلجي”، الخبير بالأدب العالمي، ترجمة عبقرية، نقل فيها للقارئ العربي، الحيوات النابضة في تلك الرواية، سواء الظاهر منها، أو المخفي تحت طبقات كثيفة من اللاوعي، وذلك في الحوارات التي جمعت بطليّ الرواية، “نرسيس” العقل المجرد، و”غولدموند” العاطفة والرغبة، التمرد والجموح، الحب والخسارة، الانكسار والحياة، الصخب ثم المزيد منه.
الرواية التي جاءت قبل الخاتمة الكبرى لكاتبها ببضع من السنين، حملت ما في روحه وعقله معاً، والسؤال الذي وقف عنده أغلب من قرأ الرواية، وجمهور من النقاد أيضاً، كان عن حقيقة وجود كل من “نرسيس وغولدموند” خارج صفحات الرواية، إلا أنهما في الحقيقة، ليسا إلا صورتان لروح واحدة، هي روح الكاتب نفسه، سواء تلك التي اكتسب شيئاً منها من مدرسته، التي قال عنها: “لم أجد طوال الأعوام الثمانية التي قضيتها في المدرسة، إلا مدرساً واحد فقط، أحسست تجاهه بالحب والامتنان”، أو روح المغامر والمتمرد، المنتظرة خلف السياج والجدران، وما تنشده من حب المعرفة الحسية النقية، معرفة الحواس آلة الجسد، لكل ما يحيط به ويجهله، بل ويتمناه.
فالفتى الذي جاء به والده، إلى أحد الأديرة ليتلقى تعليمه، وعلى عادة معظم الأرستقراطيين في ذلك الزمان، لن تجد روحه الملتاعة أساساً من هول الفراق، لا الطمأنينة ولا الراحة، لا الأمان ولا حتى العلم، بين جدران ذاك الدير، ولولا ظهور الكاهن الشاب “نرسيس” في حياته المتشظية رغم حداثة سنه، لما كان له أن يُكمل الطريق التي اختارتها عواطفه، وتمرد على كل شيء لأجلها، رغم أنه يجهل معالمها تماماً، والتجربة بحلوها ومرها، هي من ستبقى ذكراها عالقة بأثواب روحه، بغض النظر عن الحال والكيفية، التي انطبعت فيها في دواخله؛ المعلم الشاب، الشديد الذكاء، الواسع الاطلاع والمعرفة بمختلف العلوم واللغات، فهم أوجاع الفتى، وعرف تباريح ما يعانيه في الصراع العنيف الذي نشب بين دفتي صدره، مُعملاً فيه مخالبه وبلا رحمة، بعد التجربة الأولى التي خاضها في مغامرته مع بعض رفاقه في الدير، تلك التي عاد منها بطعم لسع قلبه، فهوى مريضاً لا حول فيه ولا قوة، وليصبحا صديقين بعدها، يسرّ كل منهما للآخر بما فيه، وليدله نرسيس الكاهن، بأسلوب بارع وحاذق، والأهم أنه غير مباشر، إلى أن يختار هو ما يريد أن يفعل، بعد أن وجده حائراً ومنهكا حدّ الموت، من ذلك الصراع، صراع لا هوادة فيه، بين حريته وما تعنيه هذه الكلمة عند “هسه” نفسه من معان عايشها، في تمرده المبكر على البيت والمدرسة والعمل، وبين التابوهات الكثيرة، القائمة كقلاع راسيات في ضميره، تركتها التربية الصارمة التي تلقاها في طفولته، ويمكن أن نلخص الحالة النفسية والحسية للفتى “غولدموند”، وذلك بالأسئلة التي وجهها للراهب الشاب، في واحد من امتع الحوارات الكثيرة التي جمعتهما، يقول موجهاً أسئلته الحادة لصديقه الراهب نرسيس: “هل خلق الله الإنسان لكي يدرس مؤلفات أرسطو وتوما الأكويني ويعرف اللغة اليونانية، وأن يخمد أحاسيسه ويتجنب العالم؟ ألم يخلق الله الإنسان مع شهواته وكبريائه، وقلب من الدم والظلام، ومع الحرية في أن يأثم ويحب وييأس؟”، أسئلة كانت كافية بالنسبة للمعلم، ليدرك أن علوم الدير، لن تجدي نفعاً في تهدئة ما يغلي في قعر الفتى من براكين، تكاد تتفجر، وليحسم الجدال الدائر بينهما بقوله وهو يوجهه: “لقد وعيت وبت ترى الفرق القائم بيننا، الفرق بين رجال يشبهون والدهم وأولئك الذين تحدد مصيرهم امرأة، إنه الفرق بين الروح والعقل، وأيضاً الآن سرعان ما ستدرك أن حياتك في الدير، وتوقك لأن تغدو راهباً ليس غير خطأ، أداة في يد والدك استخدمها ليزيل عنك ذكرى والدتك، أو ربما فقط وسيلة للانتقام منها، أم أنك ما زلت تتوهم أن قدرك هو أن تبقى هنا لتمضي حياتك كلها؟”، كلام خطير بالنسبة للفتى، سيحمله كجبل فوق صدره، قبل أن يحسم أمره ويمضي إلى الحياة التي يريد، ولسوف يطرح أيضاً أسئلته العميقة على كل ما يراه ويقابله في رحلته، ومنها وردة راح يتأملها طويلاً قبل أن يقول مبهوراً بالحياة الضاجة في عروقها وبتلاتها: “أي مخلوق رائع ونبيل ومترع بالفرح، هو ذلك الكائن البشري الذي يمكنه أن يصنع زهرة مثلها؟ ولكن لا أحد يستطيع ذلك، لا بطل، ولا إمبراطور، ولا بابا، ولا قديس”.
تحليل هذه الرواية الباذخة المتعة، ليس هو ما يمكن أن يجد القارئ اللذة فيه، بل أن يحييا تلك الصفحات، أن يتنفس دلالات المعاني، ما رقّ منها ودقّ، أن يشعر بنسيم دافئ لامس وجنته ذات برد، وبالحياة التي تمور بين السطور، فوقها وعليها وما بينها، أن يكتشف هو ما يريد أن يجيب نفسه عليه، دليله في ذلك قلبه وحواسه وعقله، فكلها وضعها الكاتب، لتكون مختبراً حقيقياً لمن يريد أن يهتدي بكل ما فيه لما يريد، وهذه هي القيمة الفعلية لهذا العمل الأدبي البديع، أن يحرك المياه الراكدة في دواخل القارئ، أن يرمي فيها حجراً ثقيلاً يفض رتابتها، أن يتم الاشتباك الفعلي بين عقله وعاطفته، أن يحترق مجازياً من لظى هذا الصراع الطويل، الطويل جداً، بلا نهاية.
تمّام علي بركات