دراساتصحيفة البعث

امبراطورية الشر

عن “ذي أميريكان كونزيرفاتيف” 17/01/2020
ترجمة: علاء العطار

يؤكد البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية في 10 كانون الثاني أن “أمريكا هي قوة خير في الشرق الأوسط”، ويضيف: “نريد أن نكون أصدقاء وشركاء لعراق مستقر ومزدهر يتمتع بالسيادة”، لكن سلوك إدارة ترامب تجاه العراق يشير إلى سياسة مختلفة تماماً، وأقبح بمراحل، فواشنطن تتصرف كقوة استعمارية تعتبر العراق مستعمرة، وخلصت إلى أن هذه المستعمرة العنيدة تحتاج جرعة من التأديب.
أثارت غارات واشنطن الجوية على أهداف عراقية في أواخر كانون الثاني غضب الحكومة العراقية وشعبها، فاندلعت مظاهرات حاشدة مناهضة للولايات المتحدة في العديد من المدن العراقية، وأجبر هجومهم على السفارة الأمريكية الدبلوماسيين على اللجوء إلى “غرفة آمنة” خاصة.
وكان اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني خارج بغداد بعد أيام قليلة انتهاكاً أكثر صفاقة لسيادة العراق، ناهيك عن أن تنفيذ عملية الاغتيال على الأرض العراقية، عندما أتى سليماني بدعوة من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لمناقشة سبل سلام جديدة مع السعودية، ما هو سوى فعل أحمق ويدل على العجرفة، وهذا أكد الشكوك القائلة بأن الولايات المتحدة تسعى عمداً لإبقاء الاضطرابات في الشرق الأوسط لتبرير استمرار وجودها العسكري في المنطقة، وأدى اغتيال سليماني، إلى جانب قائدين عراقيين مؤثرين، إلى قيام الحكومة العراقية بتمرير قرار يدعو رئيس الوزراء إلى طرد القوات الأمريكية المتمركزة في البلاد، فبدأ مهدي فوراً بتجهيز تشريع لتنفيذ هذا الهدف.
وكان رد ترامب على احتمال طلب بغداد مغادرة القوات الأمريكية أشبه بنوبة الغضب التي تصيب الأطفال، فهدد العراق بفرض عقوبات اقتصادية قاسية إن تجرأ على اتخاذ هذه الخطوة، إذ قال: “سنفرض عليهم عقوبات لم يروا لها مثيلاً، وستجعل العقوبات على إيران تبدو هينة بعض الشيء”.
وتبين خلال الأيام التالية أن التلويح بعصا العقوبات لم يكن فورة عفوية مفرطة، وإنما كان سياسة الإدارة الرسمية، إذ بدأ كبار المسؤولين من وزارة الخزانة، وغيرها من الوكالات، بصياغة عقوبات محددة قد يتم فرضها، وحذرت واشنطن الحكومة العراقية بصراحة أنها قد تفقد الوصول إلى حسابها لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وهذا التجميد يعد بمثابة خنق مالي لاقتصاد البلاد الهش أصلاً.
تبدو غطرسة الولايات المتحدة تجاه بغداد بلا حدود، وعندما طلب مهدي من الإدارة “إعداد آلية” لمغادرة القوات الأمريكية وبدء مفاوضات للوصول إلى هذه المرحلة الانتقالية، رفض وزير الخارجية، مايك بومبيو، ذلك رفضاً قاطعاً، وأوضح بيان وزارة الخارجية الصادر في 10 كانون الثاني أن لا نقاش في ذلك: “في هذا الوقت، أي وفد يتوجه إلى العراق سيكون مكلفاً بمناقشة أفضل وسيلة لإعادة الالتزام بشراكتنا الاستراتيجية، وليس مناقشة انسحاب القوات”.
طوال سنين الحرب الباردة، زعم الرؤساء الأمريكيون أن الناتو وغيره من التحالفات بزعامة الولايات المتحدة كانت اتحادات طوعية لأمم حرة، بالمقابل، نظروا إلى حلف وارسو لدول أوروبا الشرقية الذي تشكل رداً على حلف الناتو على أنه مؤسسة امبريالية يسيطر عليها الكرملين بالكامل.
ولا يمكن لأحد أن ينكر ممارسة الولايات المتحدة ضغوطاً على حلفائها، ومعاملتها إياهم كدمى خنوعة، لهذا فإن سلوك ترامب تجاه العراق ليس جديداً، بل سلوك مقلق للغاية ويظهر مستويات غير مسبوقة من الوقاحة، فأصبحت أمريكا الآن مكافئاً جيوسياسياً لمتنمر المدرسة.
إن رفضت واشنطن سحب قواتها من العراق، متجاهلة نداءات الحكومة العراقية، فلن يكون أولئك الجنود ضيوفاً أو حلفاء بعد الآن، بل سيتم اعتبارهم جيش احتلال معادٍ، مهما بلغ مستوى البلاغة الخطابية.
وبالتالي، لن تكون أمريكا “قوة خير” أخلاقية في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر، إذ تتصرف الولايات المتحدة كقوة امبريالية لاأخلاقية تفرض سلطتها على الدول الأضعف التي لا تتجرأ على اعتماد تدابير تتعارض مع أولويات سياسة واشنطن، وستكسب أمريكا بجدارة لقب “امبراطورية الشر”.