الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

دعوة إلى القراءة

د. نضال الصالح

أحسبُ أنّ المكتبة العربية لم تعرف منذ سنوات كتاباً مترجماً بأهمية كتاب “نظام التفاهة” للأكاديمي الكندي “آلان دونو”، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبك، الصادر بلغته الأصل قبل نحو ثلاث سنوات، وبالعربية مطلع هذه السنة بتوقيع الأكاديمية الكويتية د. مشاعل الهاجري عن دار سؤال في بيروت.
تتأتى أهمية الكتاب من صلته الوثيقة بما هو إبستمولوجي، أي ما يعني طبيعة المعرفة ومجالها وتفسيرها وبالعلاقات التي يمكن أن تنشأ بينها وسواها من الحقائق الموجودة حولها، ثمّ من حفره العميق في أكثر الجراح تغوّلاً في الشأن الإنسانيّ عامة، الشأن الذي وجد نفسه منذ سنوات ضحية قوى محمومة لقيادة العالم، ولدفع هذا الأخير إلى الوقوف على رأسه بدلاً من الوقوف على قدميه، من خلال إسباغها التفاهة على كلّ شيء، عبر البهرجة والابتذال، بتعبير المترجمة، أحياناً، والمبالغة في التفاصيل أحياناً أخرى. ولعلّ من أبرز النتائج التي انتهى المؤلف إليها في معرض تتبعه للظواهر الدالّة على نظام التفاهة الذي يكاد يستبيح كلّ شيء حولنا أنّ الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل تمكّنت من اختصار مسيرة طويلة في بلورة موضوع محدد، مسيرة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل، لكنها بآن نجحت في ترميز التافهين، أي تحويلهم إلى رموز، وأنّ الجوهر في كفاءة التافه يتجلّى في قدرته على التعرّف على تافه آخر، وأنّ أحدهما ما إن يحقق ذلك حتى يبدأ بدعمه الآخر، ويرفع من شأنه، حتى تتشكل جماعة من التافهين تكبر باستمرار، وأنّ التافهين غالباً ما يلبسون ثياب الكمال والفضيلة، ويتقنّعون بأقنعتهما، وأنّ ما كان الشاعر الإسباني “بيدرو ساليناس” اصطلح عليهم بالأميين الجدد، أي أولئك الذين يجادلون في أيّ شيء على الرغم من فقرهم المعرفيّ المدقع، بل على الرغم من معرفتهم بقشور الأشياء وسطوحها، هم أكثر تأثيراً وخطورة من الأميين أمية بحتة، وقبل ذلك تقديمه للكتاب بما يبدو تعبيراً باذخاً عن سطوة التفاهة في عالم يبدو مثخناً بحراب الهمجية: “ضعْ كتبكَ المعقدة جانباً، فكتبُ المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخوراً، ولا روحانياً.. لأنّ هذا يمكن أن يُظهرك بمظهر المغرور. خفّف من شغفك لأنّه مخيف، وقبل كلّ شيء لا تقدّم فكرة جيدة، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً”.
الكتاب، بل قراءته على نحو أدقّ، ضرورة لمختلف صنّاع القرار في مختلف الجهات التي تستهدف بناء الإنسان، كما تستهدف إعادة الاعتبار إلى الوعي الإنساني الذي تعصف به قوى تزداد توحشاً في سلب الإنسان إنسانيته، وفي تشييئه، وتسليعه، واغترابه بالمعنى الفلسفي لمفهوم الاغتراب، ولاسيما إحساسه الفادح بقطيعته مع الواقع حوله، ثمّ بالمعنى الذي أرساه كارل ماركس، أي الاستلاب. إنّه ضرورة لتطهير الوعي الجمعيّ ممّا لحق به من طيش إرادات الشرّ التي تبتكر دائماً ما تراه مناسباً من الوسائل لاستتباع الإرادات الكسيحة معرفياً، ولتحويلها إلى قوى تتصدّر الواجهة، قوى صغيرة تحكمها قوة أكبر لا يثنيها شيء عن البطش بقيم الحقّ والخير والجمال.