ثقافةصحيفة البعث

فارس زرزور مرآة صادقة لمشاعر الفقراء

 

صوّر فارس زرزور معاناة الناس في أدبه فكان مرآة صادقة لأحاسيس ومشاعر الجماهير المسحوقة.. لقد اختزن وعيه آلاف الحوادث وسجلها من خلال وجوده في محافظة الحسكة يعايش الفلاحين وينقل معاناتهم، ويصوّر الذين يستغلونهم.
وُلِدَ في دمشق، في حي الميدان الفوقاني عام 1929 وعلى عادة أبناء ذلك الجيل، فقد دخل الكتّاب، وحفظ بعض الآيات من القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدرسة خالد بن الوليد، ليتم خمس سنوات حصل فيها على شهادة السرتفيكا، ومنذ كان عمره بين الخامسة والسادسة كانت أمه تقوده إلى الباعة للعمل عندهم، كان ضعيف البنية، وأي خطأ يصدر منه كانوا ينهالون عليه شتماً وتقريعاً.. لقد أصرّت الوالدة على تعليمه، لأن شقيقها كان يريد ذلك، وخلال تلك الفترة قرأ السير الشعبية جميعها، ودرس في ثانوية التجارة فقد نال شهادة الكفاءة، كان يشعر في أعماقه أنه عاجز عن الانسجام مع المواد التي تدرّس لهم في الثانوية، لهذا كان يذهب إلى مكتبات “المسكية المجاورة للجامع الأموي ويستأجر روايات سلسلة الجيب. وكان يقرأ ويحفظ كثيراَ من الشعر العربي، تقدم إلى مسابقة أجرتها وزارة التربية والتعليم، لانتقاء مجموعة من المعلمين، وقد حمل رزمة من الورق مع دواة الحبر والريشة المعدنية، ومضى مشفوعاً بدعوات أمّه الصالحات.
استقبله الأستاذ الفاحص بوجه متجهم، وهو يضع على عينيه نظارتين سوداوين، وسأله على الفور: أرى حذاءك مثقوبا، فهل أنت فقير؟ أليس في بيتكم مكواة! ألا ترى بنطالك؟ لا شك أنك فقير، فماذا يشتغل والدك؟
ظل فارس صامتاً، وأجاب عن السؤال الأخير أنّ والده يشتغل في “حوران”. لم يقل له إنّ دكان والده صغيرة جدّاً لا تتسع إلا لخمسة رفوف لأشياء قليلة ممّا يحتاجه الفلاحون. وتستمر الأسئلة، فيسأله الأستاذ الفاحص عن الشعر، وحين يعرف أنه يحفظ كثيراً من الشعر القديم، يبشره بأنه نجح في الفحص وسيكون معلماً ابتدائياً براتب سبع وتسعين ليرة في الشهر، ويسأله أين يريد أن يتعيَن، في دمشق أم غيرها من المحافظات السورية، فيجيبه على الفور: “أريد أن أتعيَن في الجزيرة، لأني أريد أن أوفر راتبي، فوالدي بحاجة إلى المال وهو عاطل عن العمل، وبيتنا يفتقر إلى الماء والكهرباء”. وهكذا عيّن فارس زرزور في الجزيرة السورية معلماً ابتدائياً.
فارس زرزور مغرق بالواقعية، فهو ينقل لنا تفاصيل الرحلة من صحن الجامع الأموي قرب البحيرة إلى محطة الحجاز، إلى حماه وحلب إلى رأس العين إلى الحسكة، وتعيينه في قرية أبي راسين، وترحيب الأغا به، وإبلاغه أن الحكومة عينّت الأستاذ إكراماً لخاطره، وأمّا في الواقع فلا يوجد طلاب ولا طالبات أبداً، لذلك عليه أن يأكل ويشرب وينام ويأخذ راتبه من القامشلي إلى أن تأتي العطلة الصيفية فيذهب إلى داره والسلام، ثم يشتري كتب الشهادة الثانوية من القامشلي، وهذا بعد أن قبض أوّل راتب له وأرسل النقود إلى والده العزيز ووالدته الحنون: “ثم ذهبت إلى البقالية فاشتريت لوح صابون ومشطاً وكيلو تمر” وشاهد جانب الميزان رزمة من الكتب، فسأل البائع عنها، فأخبره بأنه يصر بها حاجيات المشترين، فيشتري منها خمسة كتب وكلّ كتاب بفرنك واحد، وهذه الكتب هي: كلّ شيء هادئ في الميدان الغربي – أحدب نوتردام- الرجل الضاحك – الجريمة والعقاب – دمعة وابتسامة للكاتب الهنغاري تمبيبور فازاري”.
مع بداية العام الدراسي 1947 لا تعجبه المدرسة التي كان فيها فيذهب إلى مدير المعارف في مدينة الحسكة، لينقله إلى مدرسة أخرى، فينقله إلى مدرسة “تل علو” التي تقع شمال القامشلي عند نقطة في الزاوية بين حدَي تركيا والعراق، ويعود إلى التشرد من جديد، هنا لا توجد مدرسة.
ونجده يستلهم مواضيعه من تجربته الشخصية في لوحات واقعية وفنية، ويرصد أدقّ التفاصيل في حياتهم، هؤلاء هم عالمه الرحب ومادته الخام، ينهل من معين همومهم وتعبهم، وينتقل إلى دمشق وهناك كان ينهي دراسته للمنهاج الثانوي في بداية عام 1949، وتقدّم للفحص، وفي الخريف علم بأنه من الناجحين، كان متأثراَ برواية “كلّ شيء هادئ في الميدان الغربي” لـ “إريش ماريا ريمارك”، لذلك تقدّم بطلب إلى الكلية العسكرية، وينجح فارس زرزور ويصبح طالب ضابط، ثم ضابطاً، ويظل يكتب في هذه التي تسمّى بالواقعية، ثم ينقل إلى الشمال الغربي من الحدود السورية وهنا يلقى الكرم من حيث الطعام والنوم، واحترامه من قبل المختار وأهل القرية، وهناك يلتقي بالفنان فاتح المدرس، ويتعارفان، ويصبح صديقه، ثم يتعيّن معاوناً لإدارة التوجيه المعنوي، وبعد ثلاثة أيام يأتي إليه الشاعر أبو فرات محمّد مهدي الجواهري، فيدعوه إلى غرفته ويحضر له طاولة وكرسياً، “وأخذ يزورنا الشعراء والكتاب سعيد حورانية وشوقي بغدادي وغادة السمان”.
نشر بعضاً من قصصه في مجلة الجندي، وكتب شجرة البطم التي جاءت بالجائزة الثانية لمجلة الجندي، وكانت مكافأتها 100 ليرة، وهي التي جاءت بالكهرباء والماء إلى بيت أبيه.
ونشر في عام 1962 بحثاً عن معارك الحرية في سورية، ورصد فيه نضال الشعب السوري من أجل حريته واستقلاله، وامتدت به الكتابة الروائية لتتجسد في ثلاثيته: “حسن جبل” و”لن تسقط المدينة” و”كلّ ما يحترق يلتهب”. وقد قام المخرج نبيل المالح بتحويل الجزء الأوّل من الثلاثية إلى سيناريو فيلم أخرجه بعنوان “الفهد”، من إنتاج المؤسسة العامّة للسينما.
لكن هذا الإنسان المشرد الكاتب، الروائي والقاص عانى كثيراً من المشكلات العائلية، بسبب ابنه المعوق ومرض زوجته الدائم، لهذا أثر العزلة وأهمل مظهرة الخارجي وغدا لا مبالياً. توفي في دمشق في الرابع والعشرين من كانون الثاني عام 2003.

فيصل خرتش