ثقافةصحيفة البعث

“مارتن لوثر كينغ”.. القتيل الذي لم تبرد دماءه بعد

 

ليس حادثا عابرا بالنسبة لكل من مدام “كينغ”، وزوجها “لوثر”، فما حدث خلال الرحلة التي قام بها الزوجان إلى ولاية “مونتجمري”، لم يكن إلا قشة اشعلت فتيلا، فأضاء للعالم العتمة الثقيلة للعنصرية اللاإنسانية، والتمييز العنصري اللاأخلاقي، بل والحس عليه في أبشع أشكاله، في الدولة التي تحمل فيه السيدة “فيلادلفيا”، شعلة الحرية، “مشمرة” عن ساقين من إسمنت مسلح، ملطختان بالدماء واللعنات، لطخات لن تزيلها كل أنواع المنظفات والأسيد منها، هذا ما كان يغلي في صدر الرجل ذو البشرة السوداء، وهو ينظر إلى سائق الحافلة، الذي قام بطلب الشرطة للسيدة “روزا لويس باركس”، وهي أيضا من أصحاب البشرة السوداء، بعد أن رفضت طلب سائق الشاحنة “جيمس بليك” بالتّخلي عن مقعدها في “القسم الملوّن”، إلى راكب أبيض البشرة، بعد امتلاء القسم الخاص بالركّاب من أصحاب البشرة البيضاء.
عام 1929، وفي تاريخ اليوم نفسه، ولد “مارتن لوثر كينغ الابن”، المولود الذي سوف يفضح بلون بشرته فقط، أسطورة ديمقراطية بلاد “العم سام”، والوهم العميق لهذه الأسطورة، بكل أكاذيبها فيما يخص الحريات، فالطفل الذي نشأ والدموع تملأ عينيه من القسوة التي يتعرض لها من أقرانه أصحاب البشرة البيضاء، لم يكن حينها يعلم سببها، والعودة إلى حضن أمه بينما القهر يعتمل في صدره الغض، هو كل ما كان يستطيع فعله حينها، لكن جملتها التي كانت تخفف بها عنه، وهو يشكو لها الألم الذي يصيبه من معاملة رفاقه “لا تدع هذا يؤثر عليك بل لا تدع هذا يجعلك تشعر أنك أقل من البيض فأنت لا تقل عن أي شخص آخر”، سوف تصبح محراكا لغضب اشتعل في روحه، غضب لن يهدأ حتى وهو في القبر، وهذا ما كان في رحلة حياة السيد “مارتن لوثر كينغ”، الذي سوف يقود ثورة لا هوادة فيها، رغم سلميتها التامة، للخلاص من لعنة التفوق العنصري، الذي عانى منه وأهله ومن هم مثله، ما عانوه، خلال وجودهم الطويل في تلك البلاد.
عام 1935 دخل كينغ المدارس العامة في ولاية “اتلانتا” التي ولد فيها، ومنها إلى مدرسة المعمل الخاص بجامعة أتلانتا، ثم التحق بمدرسة “بوكر واشنطن”، وكان تفوقه على أقرانه سبباً لالتحاقه بالجامعة في آخر عام 1942، ليتابع دراسته في كلية “مورهاوس”، التي قدمت له ما ساعده على توسيع مداركه النفسية والحسية، وجعلته يدرك ما يستطيع أن يقدم من خدمة جليلة التي للعالم، تم تعيينه مساعدا في كنيسة أبيه 1947، وصار قسا معمدانيا، ثم حصل على درجة البكالوريوس في الآداب في سنة 1948، ولم يكن عمره تجاوز 19 عاما، وحينها التقى بفتاة سوداء تدعى “كوريتاسكوت”، وتم زفافهما عام 1953، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوسطن، في عام 1951م حصل على بكالوريوس في اللاهوت، وفي عام 1955م حصل على درجة الدكتوراه في التخصص نفسه.
حادثة الحافلة الآنفة الذكر والتي وقعت بتاريخ 1/12/1955، وما رآه الشاب الممتلئ بالغضب، من موقف السيدة المُحتجة والرافضة بشدة لما وقع لها، جعله يدرك أن بداية العمل الحقيقي لنسف هذا الحال، حانت، فما من صاحب بشرة سوداء في تلك البلاد، إلا ويعاني ما عاناه أجداده قبله من اضطهاد عنصري مرعب بما للكلمة من معنى، فالجينات التي تجري في دمه، تعرف هذا، والخوف الساكن جنبات قلب أمه عليه، كان الفتى قد تَشرّبه طوال فترة طفولته ونشأته، وقرر في تلك اللحظة، أنه لن يسكت على هذا، ولسوف تندلع من تحت قشرة الهدوء الرقيقة التي طبعت ملامحه البارزة، الثورة السلمية التي جعلت أمريكا تسمي يوما من أيامها باسمه، وتحتفل فيه في كل عام، وهذا اليوم يُعرف بـ “يوم مارتن لوثر كنج” وهو يوم سنوي في الولايات المتحدة الأمريكية” وأحد الأعياد الفدرالية فيها، منهيا بالنضال السلمي الذي بدأه ضد كل أشكال التمييز العنصري، فصلا من الفصول الدامية، تلك التي عاثت بحياة الناس خرابا في تلك البلاد، وكاشفا بلا رحمة، أسوأ أشكال التعامل المهين، الذي كان يمارس وبالقانون، ضد أصحاب البشرة المختلفة عن بشرة البيض، ورغم أن تلك الحياة المليئة بالعواصف التي أثارها فكر “كينغ” في المجتمع الأمريكي، قد انتهت باغتياله في تاريخ 4/3/ 1968/ إلا أن جذوتها بقيت منتفضة، ولم تخمد، حتى تم إلغاء كل أشكال التمييز العنصري في أمريكا، شكليا على الأقل.
اليوم ومنذ مدة، نسمع ونرى بشكل متقارب، عن أشخاص من الشرطة الأمريكية، قاموا بقتل إنسانا تهمته بشرته، ورغم كل محاولات الإعلام الأمريكي، التعمية على هذا الخطب، إلا أنها لم تفلح بذلك، فصور القتلى تملأ الشاشات، ومواقع التواصل الاجتماعي، في البلد الذي يريد أن يفرض “الديمقراطية”، بقوة السلاح على بلدان أخرى ذات سيادة! الديمقراطية التي يتشدق بها، ولا تساوي عنده إلا رصاصة تغتال كل من لا تعجبه “ديمقراطية الموت” تلك، ما يعني أن كل ما ناضل لأجله وحلم به، طار أدراج الرياح، والدماء الحارة التي سُفكت منه ومن كثر غيره لذات السبب، لم تبرد كما اتضح بعد!
تمّام علي بركات