ثقافةصحيفة البعث

إله الأشياء الصغيرة: عندما تكتب الحواس

أربع سنوات ونصف قضتها الكاتبة الهندية “أرواندتي روي” في كتابة روايتها الأولى “إله الأشياء الصغيرة” الصادرة عام 1997، الرواية التي أثارت سباقا محموما من التنافس على نشرها، بين كل من دور النشر البريطانية والأمريكية، رغم أنها كما ذكرنا سابقا، كانت الرواية الأولى، لكاتبة مغمورة لم يسبق لها ان كتبت قبلها إلا سيناريو لفيلمين لم يحققا النجاح حتى.

الحيوية والإبهار والجرأة اللغوية بالإضافة إلى القدرة على شد انتباه القارئ دون توقف، هي من صفات هذا العمل الأدبي، الذي يصور العالم بعيني توأمين يراقبان ما يدور حولهما في مقاطعة هندية جنوبية نهاية الستينيات، حيث سيتعرف القارئ ومنذ الصفحة الرابعة، على وفاة الطفلة “صوفي” وتداعيات هذه الوفاة، بلغة حارة، متدفقة، مع براعة عالية في السرد والقدرة على حبس أنفاس القارئ، أيضا الخيال البارع المشغول بلغة تقترب من حواف الشعر، سيكون له دوره الهام في تشكيل الصور والايحاءات المسكوبة بسلاسة تبدو وكأنها اقرب إلى العفوية والمباشرة، رغم أنها ليست كذلك أبدا، فتفاصيل الحادثة وانعكاساتها، ستظل غامضة بالنسبة للقارئ، إلى أن تكتمل الرواية في فصلها الأخير، حيث تنحل خيوط الحكاية المعقدة، وذلك بسبب طبيعة السرد الذي تنسجه الكاتبة حول وفاة الطفلة التي تكثف المأساة، وتقوض أركان حياة التوأمين السياميين “راحيل، أيسثابين”، اللذين يبلغا من العمر سبع سنوات، ويفكران بالطريقة نفسها، يريان العالم بعينين اثنتين لا بأربعة عيون، ولا بد للقارئ أن يشعر وهو يتابع عملية النسيج الروائي وانجدال خيوطه وتعقدها، أن ثمة مصائر تراجيدية تلوح في الأفق، وهنا تستخدم المؤلفة خبرتها كمهندسة معمارية في بناء العمل بطريقة تبقي القارئ متقطع الأنفاس إلى نهاية الفصل الأخير، عندما يتبين في اللحظات الأخيرة حقيقة ما حدث، وكيف انعكس الخطب على الطفلين، اللذين كبرا وتفرقت بهما السبل، بسبب المأساة العائلية، التي تمتد جذورها في طبيعة الانقسام الاجتماعي العميق داخل المجتمع الهندي، وتحديدا في مقاطعة “كيرالا” الجنوبية، التي يحيا فيها السريان والهندوس والمسلمين والمنبوذين، بتعايش لن يكون له أي تأثير على طبيعة الانقسام الطبقي الحاد في ذلك المجتمع، ورغم أن الحزب الشيوعي هو المسيطر في المقاطعة، إلا أن الانقسام الطبقي الحاد بين المنبوذين وبقية الطبقات في ذلك المجتمع، سيكون له أثره في تأزم أحداث الرواية وبلوغ المأساة ذروتها.

الرواية التي يمكن تصنيفها “خيال نفسي، أدب محلي”، تتحرك في سرد دائري لتكثيف الإحساس بحدث الموت وبداية نضوج المأساة، حيث تبدأ من مشهد الجنازة وطيران الخفافيش في فضاء قبة الكنيسة، منتهية بالاحتفال الشبق بين الأم المكلومة، والشاب الذي ينتمي إلى طبقة المنبوذين، وذلك على مقربة من البيت المهجور على ضفة النهر، البيت الذي يسميه التوأمان “قلب الظلام”، في إشارة دالة على رواية “جوزيف كونراد” التي تحمل الاسم نفسه.

يمكن تلخيص الحكاية في زواج أم “التؤامين” (أمو) السريانية، من شاب هندوسي بنغالي، ليتبين لها فيما بعد أنه سكير ضعيف الشخصية، لا يقدر على إعالة الطفلين وأمهما، فتعود الأم إلى أهلها في مقاطعة “كيرالا”، لتعيش مع أمها وأخيها العائد من أكسفورد، عقب نهاية زواج فاشل، كانت الطفلة الهندية –الإنجليزية-“صوفي”، ثمرته، وأثناء مجي الطفلة وأمها لزيارة والدها، تغرق، بعد الفوضى العارمة التي تسبب بها اكتشاف العائلة للعلاقة بين “أمو” والشاب المنبوذ الذي يعمل في المصنع المملوك من قبل العائلة، لتكون المأساة هي السبب في تفجير الأزمة الحادة التي يحيا بها ذلك المجتمع، في إسقاطات ذكية ومواربة، على طبيعة هذا الانقسام وتداخله بآن، ورغم أن لغة الأحداث في الرواية شديدة الكثافة، مع غموض وغشاوة تغطي الأحداث التي تشكل العمود الفقري للرواية، لكن هذا الغموض في الوصف والاستعارات، مع الكيفية التي تتضافر بها الحكايات الفرعية فيها تمثل سر نجاح هذا العمل، وقدرته على إرضاء أذواق شرائح واسعة من القراء، فالكاتبة تعرف لعبة أسرار التشويق في القص، وهي بسردها الشاعري لهذه الحكاية البسيطة في ظاهرها، تُثبت أنه بالإمكان بناء عمل روائي ساحر، على هيكل حكاية اجتماعية ذات نسيج تقليدي، فالرواية جاءت مليئة بالغرائبية والجاذبية السحرية الكامنة في العوالم الشرقية التي تخوض بها، عدا عن كون اللغة الشاعرية نفسها وبالخواص التي تتمتع بها، من سرد متدفق بالغ الحيوية، وما ينتجه من خيال بارع لكاتبة حديثة العهد بالكتابة الروائية، إضافة إلى ما تعيد الرواية التذكير به، من أواخر أجواء ستينيات القرن الماضي العالمية، حيث يقع موت الطفلة “صوفي” عام 1969، وذكريات التوأمين المنتمية بقوة إلى تلك الفترة، التي تلونت بأغاني “الفيس بريسلي” وموسيقى “الروك أند رول”، بالإضافة إلى أزياء تلك الحقبة الزمنية، التي اجتاحت العالم بدوله الفقيرة والغنية، كلها عوامل جعلت الرواية تقترب من روح الروايات الشعبية، مطعمة بنبرة ما بعد حداثية، تمزج الأدب الرفيع بتلك الأنواع الدنيا من الأدب، خصوصا بما جاءت على التلميح إليه في فصولها، من طغيان البرامج التلفزيونية على الثقافة العامة في بلد فقير مثل الهند، ودخول عنصر الفضائيات، وما عرف بـ”القرية الكونية”، الذي حقق شكليا توحيدا للناس بمختلف أنواعهم، وذلك بتوحيد نوعية ما يُقدم لهم من أخبار وبرامج ومسلسلات.

رغم أن رواية “إله الأشياء الصغيرة”، واجهت الكثير من الانتقادات اللاذعة، التي تم تصويبها من قبل العديد من النقاد، بسبب ما قدمته في متنها، من حكايات صادمة وأفكار جريئة، إلا أنها فازت بجائزة البوكر البريطانية، ومما لا شك فيه أنها رواية ذات طبيعة حسية خالصة، إي أنها اعتمدت على إعلاء شأن الحواس على حساب لغة المنطق والعقل المجردة، وهذا أمر طبيعي، لعمل أدبي قدم ما قدمه اتكاء على عوالم بالغة التعقيد في بُناها، سواء في طبيعة الشخصيات، أو طبيعة الحياة المتناقضة نفسها، التي نشأت تلك الشخصيات في وحولها وبين تناقضاتها الشديدة الاختلاف، كحال المجتمع الذي قدمته.

تمّام علي بركات